جاءت الكلمة التي ألقاها رجل الدين الشيعي وقائد حزب الله الجديد نعيم قاسم في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي مخيّبة للآمال، لما تنطوي عليها من تناقضات وهروب للأمام عن شجاعة الأعراف بالهزيمة، والأنكى من ذلك وصفه إياها بـ"الانتصار" للمقاومة لأنها منعت العدو من تدمير حزب الله والمقاومة! ووفق هذا المفهوم للانتصار، تغدو مغامرة حزبه العسكرية الطائشة التي خلّفت للبنان أُم الكوارث ليست سوى من أجل أن يمنع إسرائيل من تدميره وإنهاء المقاومة! ومع أنَّ قاسماً أقر بأنَّ أتفاق وقف إطلاق النار تم "تحت خط السيادة اللبنانية"، وأنَّ "التنسيق بين المقاومة والجيش اللبناني سيكون تنسيقاً عالي المستوى لتنفيذ التزامات الاتفاق"، وتعهد بأنَّ الحزب سيفشل أيّ مراهنات لإحداث انقسام بينه وبين الجيش، فإنَّه تجاهل أنَّ هذا مطلب لطالما طالبت به كل الأصوات الوطنية العقلانية منذ ما قبل خوضه مغامرته، في حين ظل الحزب متفرداً بقرار الحرب والسلم متجاهلاً الدولة وجيشها الوطني.
والحال كذلك فيما يتعلق بوعد قاسم التعاون "مع الدولة وكل المنظمات والدول التي ترغب في مساعدة لبنان"، وأيضاً في ما يتعلق بتعهده بأنَّ الحزب "سيكون مع القوى السياسية التي تؤمن بأنَّ الوطن للجميع، وهو سيتعاون ويتحاور مع كل القوى التي تريد بناء لبنان الواحد في إطار اتفاق الطائف".
ويتناسى الحزب أنَّ ما يطالب به الآن للحوار مع كل القوى التي تريد "بناء لبنان الواحد" وفق "الطائف" كانت هي التي تطالبه به ردحاً من الزمن، دون أن تلقى اذناً صاغيةً منه خلال سكرة انتصاراته الوهمية، وهكذا في ما يتعلق بتعهد قاسم بـ"الاهتمام بالمؤسسات الدستورية، وعلى رأسها انتخاب رئيس للجمهورية". وإذ تبدو الوعود التي أطلقها قاسم للوهلة جميلة، فإنها لن تكون ذات قيمة ما لم تترجم على أرض الواقع بجدية ومصداقية لتنفيذها بوطنية مستقلة، بعيداً عن أجندة طهران في منطقتنا العربية. وحتى هذه اللغة التصالحية الجديدة التي رطن بها قاسم إنما جاءت تحت وقع قسوة الردع الإسرائيلي لمواقع وبيئة حزب الله من جهة، والجدل المحتدم واسع النطاق حول جدوى مغامرة الحزب من جهة أُخرى، مما كان له أبلغ الأثر في ولادة تلك "اللغة العقلانية"، فضلاً عما أفرزته المغامرة من تضعضع معنويات قطاع كبير من كوادر الحزب من هزيمة حرب "إسناد غزة"، سيما وأنه لم يكن لها أي تأثير يذكر في إجبار الأحتلال على إيقافها، بل عادت بالوبال على الحزب نفسه حيث أدت إلى خروج مجاميع من كوادره، وحتى الآن لا تتوافر إحصائية تقديرية لحجم أعداد مهولة انفضت عن الحزب؛ جراء اهتزاز إيمانها بعقيدة الحزب.
ولعل الحسنة الوحيدة في كلمة قاسم تمثلت في حرصه على قراءة كلمته - ككلماته السابقة - مكتوبة، والراجح أنه كتبها بمعرفة قيادة الحزب مسبقاً، بدلاً من الكلمات المرتجلة النارية التي انتهجها الأمين العام الراحل والتي لطالما تخللتها سقطات خطيرة جرت على الدولة اللبنانية مشاكل مع دول عربية في وقت أحوج ما يكون فيه لبنان للاستقرار الداخلي للتخفيف من حدة مشاكله الداخلية، وعلى رأسها الاقتصادية والمعيشية والإسكانية.
إقرأ أيضاً: ثلاث مبادرات وطنية لبنانية
ولئن أبدى قاسم استعداداً للتعاون مع "الدولة وكل المنظمات والدول التي ترغب في مساعدة لبنان"، فإنَّ هذا لن يتحقق ما لم يؤمن الحزب مقدماً بأهمية مبدأ التعايش السلمي بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية المختلفة، والذي ظلت قوى التقدم الاجتماعي والسلم في العالم تنادي به في أوج الحرب الباردة؛ درءاً من النزاعات والحروب الإقليمية بين الدول والتي تعوق تنميتها واستقرارها، أو تجرّ القوى الكبرى إلى حافة حرب نووية تهدد المعمورة برمتها. ولئن كان احترام مبدأ التعايش السلمي مهماً بين دول العالم قاطبة، فمن باب أولى أن يكون أكثر أهميةً بين دولنا العربية جمعاء.