رحل رجل عظيم في 28 فبراير، حاملاً معه بريق حياة كرسها لوطنه. كان وزيراً استثنائياً، ومرشداً مُلهِماً، وصديقاً وفياً، تاركاً وراءه أكثر من مجرد ذكرى: إرثاً خالداً محفوراً في تاريخنا. اليوم، أسرة وزارة الخارجية تودع واحداً من أبرز ممثليها، محمد بن عيسى، رجل الدولة الذي حمل عالياً مبادئ بلاده، المغرب.
حتى آخر لحظة، ظل يجسد التميز. ففي اليوم الأول من رمضان، مر موكب جنازته عبر الأزقة البيضاء والزرقاء لأصيلة، التي شهدت بصمت على التقدير الذي حظي به. موكبٌ حضره كل من أحبوه، من إدريس جطو (رئيس الوزراء الأسبق) إلى ناصر بوريطة (وزير الخارجية الحالي)، مروراً بنزار بركة (وزير التجهيز والمياه)، ونبيل بنعبد الله (وزير الإسكان الأسبق)، وإدريس الضحاك.
رجل الإنصات
توقفت مدينة أصيلة، التي ظل رئيساً لبلديتها حتى آخر أنفاسه، لتكرّمه بحزن عميق، مرددة اسمه بكل احترام ومودة. لم يكن مسؤولاً عادياً، بل منارةً تجاوز تأثيرها حدود منصبه. ومع رحيله، لم يترك مجرد حزن، بل فراغاً هائلاً، ذلك الغياب الذي لا يفرضه على العالم سوى العظماء.
كان “إل كاباييرو”، كما أحب بعض أصدقائه أن يلقبوه، أكثر من مجرد شخص ينبض بالحياة؛ فقد عاش أكثر من حياة. من الثقافة إلى وزارة الخارجية، وصولاً إلى بلدية أصيلة، شغل مناصب متعددة وأدى أدواره بامتياز. امتلك موهبة نادرة في التأقلم مع مهام متباينة، وكان رجل توافق بامتياز، يجيد فن الإصغاء وكسب الإجماع.
كان دبلوماسياً استثنائياً، يتمتع بقدرة هائلة على التكيف مع مختلف المواقف. مثل الحرباء، كان يتنقل بمرونة بين أكثر الاجتماعات تعقيداً، بذكاء سياسي حاد لا يجاريه فيه أحد. خلال زياراته إلى أمريكا اللاتينية، حيث حظيت بشرف مرافقته، كنت أرى فنّه في العمل.
كان رؤساء الدول هناك يستقبلونه بحفاوة لجلسات مطولة داخل قصورهم الرئاسية، دليلٌ آخر على جاذبيته الشخصية. من الغناء بالإسبانية إلى التحليل الجيوسياسي، كان يملك أكثر من ورقة رابحة. في إسبانيا، كانت علاقاته مع خوسيه لويس رودريغيز ثاباتيرو، ميغيل أنخيل موراتينوس، وآنا بالاثيو تتجاوز الأطر المهنية، مدعومة بإتقانه للإسبانية.
الحوار والتواضع
كان رأس ماله في الدبلوماسية سلاحاً قوياً. كان له نفوذ واسع وعلى أعلى المستويات، خاصة في إفريقيا، حيث بدأ مسيرته المهنية في أديس أبابا وأكرا. تعزز ارتباطه بالقارة بعد ولادة ابنته شافية هناك، مما أكسبه فهماً عميقاً لتنوع إفريقيا وحساسيات شعوبها.
من ليوبولد سيدار سنغور إلى كوفي عنان، مروراً بشيخ تيجان غاديو ومصطفى نياس، كان صديقاً يحظى باحترام الجميع. كان يؤمن بأن العنصر الإنساني هو جوهر كل شيء. ورغم انزعاجه أحياناً من الصياغة الرسمية للخطابات، كان يدرك تماماً أهميتها. أتذكر كيف كان يسألني دائماً إن كنت قد راجعت نصوصي وأخذت موافقة الطيب الفاسي الفهري، الذي شكل معه ثنائياً قوياً في قيادة دبلوماسيتنا.
كان “إل كاباييرو” رجل حوار والتزام، قريباً من الناس، حريصاً دائماً على مشاورة زملائه بتواضع كبير. لا أنسى وجبات الغداء التي كان يتقاسمها معنا، أنا وفؤاد يازوغ (مدير الاتصال آنذاك)، حين كنت أشغل منصب المدير العام بالوزارة. كانت لقاءاتنا تدور حول طاجين الخضار والسمك الشهي الذي كانت تحضّره أسرته بمحبة.
وطني استثنائي
بعد سنوات من العمل إلى جانب محمد بنعيسى، أستطيع أن أؤكد شيئاً واحداً: لقد كان وطنياً استثنائياً، كرّس حياته لخدمة الملكين الراحل الحسن الثاني وصاحب الجلالة الملك محمد السادس، واضعاً مصلحة المغرب ووحدته الترابية في قلب جهوده. كان يتابع قضايا بلاده بشغف، سياسياً، ودبلوماسياً، واقتصادياً، مساهماً بقوة في التحولات الكبرى التي شهدتها المملكة.
كان حاضراً في كل المحافل المهمة. كسفير في واشنطن، برع في فرض نفسه كمرجع دبلوماسي لدى الخارجية الأمريكية والكونغرس. بفضل معرفته الدقيقة بالقضايا العربية، كان مستشاراً موثوقاً يُستشار في كل مرة كان هناك موقف أو تحليل يجب تقديمه. علاقته مع مادلين أولبرايت لم تكن مجرد علاقة عمل، بل امتدت إلى تعاون وثيق داخل مؤسسة “أسبن” الفكرية الأمريكية. كما كان عضواً بارزاً في “منتدى صير بني ياس” بالإمارات، ما يعكس قربه من كبار القادة العرب.
متوسطي أصيل
كان يوحي بالهدوء والصبر والحكمة. غالباً ما كان الحل الوسط حاضراً في مفاوضاته دون أن يضطر إلى تقديم تنازلات حقيقية. كان بارعاً في توجيه شركائنا حيث يريد، ليس عن طريق المناورة، بل من خلال إيمانه بأن الدبلوماسية فن التأثير، القائم على مشروع مشترك يحقق مكاسب للجميع.
ذكاؤه الحاد ونزاهته سيبقيان حاضرين في الذاكرة. كان مفكراً دقيقاً، وسياسياً شغوفاً، وديمقراطياً مناضلاً، وفناناً في أوقات فراغه. امتلك حساً فنياً راقياً، حيث تداخلت مسيرته السياسية مع اهتمامه الثقافي.
في مسقط رأسه أصيلة، جعل من مؤسسة “منتدى أصيلة”، التي كان أمينها العام، منصة حرة للحوار، حيث لم يكن يتردد في طرح قضايا راهنة ملتهبة. من أبرز المواضيع التي ناقشها: مشكلة الحدود في إفريقيا، النخب العربية في المهجر، الحركات الدينية والمشهد السياسي، وقيم العدالة والنظم الديمقراطية.
باختصار، كان محمد بن عيسى متوسطيّ الروح، رجلاً أنيقاً دافئاً، مغناطيسياً في حضوره، صوته مؤثر وشخصيته مُلهمة. كان يحمل حباً عميقاً لوطنه، ويجسد روح الدولة بمعناها الأسمى. رجل لطيف، متواضع، كادح لا يكلّ، ووسيط بارع. لذلك، لن يكون فقط موضع حزن، بل سيبقى حياً في ذاكرة كل من عرفوه.
*سفير المغرب لدى واشنطن