إسرائيل، وقبلها الحركة الصهيونية، تُعتبر الثابت الوحيد في السياسة الأميركية منذ عام 1948، فالقاسم المشترك بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي هو الالتزام بأمن وبقاء إسرائيل. ويشمل هذا الالتزام مستويات الكونغرس والرئاسة. ومع كل انتخابات على المستويين، يتجدد هذا الالتزام كما نرى اليوم في الحرب على غزة، حيث يتسابق المرشحون في الذهاب بعيداً بالتعبير عن الالتزام بالمال والسلاح. ولعل ذلك يعزى إلى أسباب متعددة، بين الثقافية والأيديولوجية والسياسية والأمنية والاستراتيجية، ووجود لوبي يتحكم في تفاعلات السياسة الأميركية. ودون الدخول في التفاصيل، يكفي القول إنَّ الالتزام بأمن إسرائيل وبقائها يعتبر قضية داخلية، والدور الذي يلعبه الإنجيليون، الذين يزيد عددهم عن ستين مليوناً في الولايات المتحدة ويؤمنون أنَّ عودة المسيح المنتظرة مرتبطة بعودة اليهود إلى فلسطين، إضافةً إلى اللوبي الصهيوني بما يملكه من قدرات مالية وتركيز الصوت اليهودي في الولايات الكبيرة التي تحسم الانتخابات الرئاسية وفقاً لنظام الكلية الانتخابية، يُعزّز هذا الالتزام.
مرَّت إسرائيل بمراحل أساسية، ومع كل مرحلة يبرز الدور الذي يلعبه الرؤساء الأميركيون: مرحلة التأسيس، ثم مرحلة النشأة، فالتثبيت، ثم التمكين والتمدد، وصولاً إلى مرحلة الاعتراف. وهنا يبرز سؤال حول دور الرئيس وودرو ويلسون، الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة، الذي حكم من 4 آذار (مارس) 1913 إلى 4 آذار (مارس) 1921، في مرحلة التأسيس التي تزامنت مع وعد بلفور. وما كان لهذا الوعد أن يصدر لولا دعم الرئيس ويلسون، ويعود هذا التأييد إلى القاضي لويس برانديس، القاضي الأميركي اليهودي المؤيد للصهيونية والأكثر قرباً من الرئيس ويلسون. وأشار المؤرخ الإسرائيلي كوبي برادا إلى أنَّ الحكومتين البريطانية والأميركية لم تكونا متحمستين لصدور الوعد، باستثناء وزير الخارجية البريطاني بلفور والقاضي لويس برانديس الذي كان على اتصال بحاييم وايزمان، وبمساعدة الكولونيل إدوارد مندل هاوس، المستشار الأقرب لويلسون، والحاخام فيينز. هذا الثالوث أقنع الرئيس ويلسون بتأييد الوعد، رغم انتقاداته السابقة لليهود، لتنتهي القصة بإرسال برقية تأييد لرئيس الوزراء البريطاني لويد جورج، وتوّج التأييد باجتماع الحكومة البريطانية بتاريخ 4 تشرين الأول 1917، حيث عبّر الرئيس عن تعاطفه مع الحركة الصهيونية.
أما الرئيس الثاني، الذي أعلن اعترافه بإسرائيل بعد 11 دقيقة من إعلانها، فهو هاري ترومان، الرئيس الثالث والثلاثون للولايات المتحدة، وذلك رغم معارضة مستشاريه. وقد كان أول سفير للولايات المتحدة جيمس غروفر ماكدونالد، الذي قدم أوراق اعتماده للرئيس الإسرائيلي بتاريخ 28 آذار (مارس) 1949، لكنَّ الاعتبارات السياسية وضرورات الفوز في الانتخابات الرئاسية كانت حاسمة. هذا الموقف هو المحرك لسلوك كل رؤساء الولايات المتحدة حتى الرئيس الحالي جو بايدن، وهو الرئيس السابع والأربعين، الذي يُعدّ الأكثر تأييداً وتحالفاً ودعماً لإسرائيل، وله مواقف كثيرة من قبل موقفه الحالي في حرب غزة. وكما يقول الباحث الإسرائيلي شموئيل روزنران، فإنَّ القضايا الرئيسية التي تحكم العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل هي الالتزام بأمن إسرائيل وتفوقها على كل محيطها. وقد تفوق بايدن على غيره من الرؤساء في دعمه وتبنيه هاتين القضيتين.
إقرأ أيضاً: غزة ونظرية دورة الحرب
منذ عام 2008، عبر بايدن في العديد من المناسبات عن التزامه بأمن إسرائيل، وذكر أنه عرف كل رئيس وزراء لإسرائيل منذ غولدا مائير عام 1973. ويروي أنه عندما كان سيناتوراً، قالت له غولدا مائير: "ليس لنا مكان آخر نذهب إليه"، فرد عليها: "اسمي جون بايدن، والجميع يعرف أنني أحب إسرائيل". وعبّر عن إيمانه الوثيق بأن بقاء إسرائيل يعتمد على تحالفها مع الولايات المتحدة، وقال لنتنياهو: "أنا لا أتفق مع أي شيء تقوله، لكنني أحبك". وقد اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل قبل عقدين من اعتراف الرئيس السابق دونالد ترامب، وأيد مشروع قرار في مجلس الشيوخ عام 1995 لإقامة سفارة أميركية في القدس بحلول عام 1999. وأي انتقاد لسياسة إسرائيل يأتي في سياق حبه لها، ويدعم إسرائيل كدولة يهودية مستقلة.
ساعد بايدن، عندما كان نائباً للرئيس، في تأمين أكبر دعم تحصل عليه إسرائيل عام 2016 بقيمة 83 مليار دولار. ومن المعروف أن فترة حكم الرئيس باراك أوباما ونائبه بايدن كانت الأكثر نشاطاً استيطانياً. كما قال بايدن عام 1986: "إذا لم تكن إسرائيل موجودة، فستضطر الولايات المتحدة إلى اختراعها لحماية المصالح الأميركية". وأكد قائلاً: "إذا كنت يهودياً، فسأكون صهيونياً". ومن مظاهر العلاقة الشخصية، أن ابن بايدن متزوج من يهودية.
إقرأ أيضاً: حروب الكبار
وتقول صحيفة هآرتس إنَّ العلاقة التي تربط بين بايدن وإسرائيل طويلة ومعقدة، وزيارته لإسرائيل وهو رئيس تدعم هذا التأييد. ويقف بايدن في دعمه لإسرائيل أكثر من أي وقت مضى في الحرب على غزة، حيث زارها لدعمها لبضع ساعات، وتبنى وجهة نظر إسرائيل في رفض وقف إطلاق النار وتقديم مساعدات بقيمة تتجاوز 14 مليار دولار، بالإضافة إلى استخدام الفيتو الأميركي في مجلس الأمن ضد مشاريع قرارات تطالب بوقف القتال. هذا الموقف يلخص التاريخ السياسي لبايدن في دعمه إسرائيل، فيما تبقى كل الوعود بحل الدولتين مجرد وهم سياسي. وهذا قليل من كثير لدعمه لإسرائيل.