إجابة عن السؤالين اللذين طرحتهما في ختام المقال السابق، أقول في الإجابة عن السؤال الأول:
الشيخ محمد الغزالي عرض على سيد قطب الانضمام إلى جماعة «الإخوان المسلمين» في أثناء عمله مع سيد قطب في مجلة (الفكر الجديد) عام 1948، بحسب ما أخبر هو بذلك الباحث شريف يونس، وليس عام 1951، بحسب ما روى للفيف من الباحثين الإسلاميين من مريديه.
ومما يؤكد أن تاريخ هذا العرض كان عام 1948 وليس عام 1951، أن ج. هيوارث دن أومأ إليه بطريقة مختلفة في كتابه (الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة) الصادر باللغة الإنجليزية عام 1950، حين حكى عن مسببات الصدام بين حسن البنا وسيد قطب، أيام كان سيد قطب يرأس تحرير مجلة (الفكر الجديد).
وأقول في الإجابة عن السؤال الثاني:
إن الشيخ الغزالي عرض على سيد قطب الانضمام إلى جماعة «الإخوان المسلمين» ليس بـ«مبادرة» منه، بل بـ«أمر» من مرشده حسن البنا. عرض عليه هذه الدعوة على كراهة منه. ومما خفف عليه عبء القيام بهذه المهمة علمه بأن سيد قطب سيرفض الاستجابة لهذه الدعوة، لأنه يُخبَر عنه أنه لا يواد حسن البنا ولا يواد جماعة «الإخوان المسلمين».
لما كتب سيد قطب مقالاً احتفائياً بكتاب الغزالي (الإسلام والأوضاع الاقتصادية) في جريدة (الوادي) بتاريخ 18 أغسطس (آب) 1947، كان الشيخ محمد الغزالي سعيداً مرتين:
الأولى، أن هذا الكتاب كان كتابه الأول، وأن الكاتب الذي احتفى بصدوره أديب وناقد ذائع الصيت.
الثانية، أن سيد قطب في عرضه الاحتفائي بالكتاب، أظهر توجهاً إسلامياً لم يكن معهوداً عنه.
وهذا التوجه الإسلامي برز أكثر عند سيد قطب في النهج الذي جعل مجلة (الفكر الجديد) محكومة به حين أصدرها من بداية عام 1948. وهي المجلة التي كان الغزالي مع ستة آخرين هم فريق العمل فيها بقيادة سيد قطب.
فالغزالي كان سعيداً ومبتهجاً ومغتبطاً بأن يكون سيد قطب صاحب توجه إسلامي، لكنه كان يريد له أن يكون «إسلامياً» من خارج «الإخوان المسلمين» وليس من داخلهم.
ذلك لأنه حين أصدر كتابيه (الإسلام والأوضاع الاقتصادية) و(الإسلام والمناهج الاشتراكية) في عام 1947 تبوأ مقعد المنظّر الأبرز في جماعة «الإخوان المسلمين». وهو يعلم من خلال عرض سيد قطب لكتابه الأول، أن لديه كتاباً قيد الإصدار في لجنة النشر للجامعيين، اسمه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) موضوعه هو موضوع كتابيه نفسه، وبتوجهه الإسلامي نفسه. وكان سيد قطب قبلها حين كان يرأس تحرير مجلة (العالم العربي) في الأشهر الأربعة الأولى من عام 1947، قد نوّه إلى أن كتابه هذا قيد الصدور.
سيد قطب غير أنه أديب وناقد ذائع الصيت، هو أكثر تعمقاً منه بجوانب من الثقافة الحديثة، وأجود منه إتقاناً في سبك كتاب موضوعه واحد، وأضرب لذلك مثلاً من كتب سيد قطب التي ألّفها قبل عام 1948، كتابيه: (التصوير الفني في القرآن) و(مشاهد القيامة في القرآن). فإن انضم سيد قطب إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، فسيزيحه من ذلك المقعد بسهولة وبقوة.
إن محمد أحمد خلف الله في بحثه (الصحوة الإسلامية في مصر) الذي كُلّف محمد الغزالي بكتابة «تعقيب» عليه، فتح – من دون أن يدري – عند الغزالي جرحاً غائراً، فأطلق الغزالي عليه وعلى بحثه في أول جملة من «تعقيبه» رصاصة. هذه الرصاصة هي قوله: «هذا تعقيب (!) غير محايد وفيه مجازفات شتى».
إن قارئ جملة الغزالي هذه الغاضبة يرتبك، فما كتبه محمد أحمد خلف الله هو «بحث»، وما كتبه هو «تعقيب» على هذا البحث، وقد كُتب فوقه بالخط العريض «تعقيب»، فلماذا يسمي «بحث» محمد أحمد خلف الله «تعقيباً»؟!
لقد سماه ذلك للتقليل من قيمته، وظن أنه - يا للسذاجة - إن سماه باسمه، فقال عنه: «هذا بحث...»، فإنه سيزكي ما جاء فيه!!!
هل سبب تلك الجملة الغاضبة التي افتتح بها «تعقيبه»، هو قوله بعدها: «إن الإسلاميين يعرفون عن دكتور خلف الله أمرين: أولهما، أنه يرى الإسلام ديناً لا دولة، وعقيدة لا شريعة. والثاني، أنه يعطي الحاكم حق وقف النص الديني إذا رأى أنه يعارض المصلحة؟».
إن قوله هذا ما هو إلا تمويه ديني إسلامي للتغطية على السبب المباشر لغضبه الذي ينز به «تعقيبه» على «بحث» خلف الله من أول سطر في «التعقيب» إلى آخر سطر فيه.
السبب المباشر هو أن خلف الله درس فكر جماعة «الإخوان المسلمين» من خلال شخصيات ثلاث؛ هي: حسن البنا وعبد القادر عودة وسيد قطب، وكان تعليله للاقتصار على هذه الشخصيات الثلاث هو أنه «كان لها دور فعّال في حياة هذه الجماعة منذ النشأة الأولى لها، وإلى أن تشعبت وتفرعت وأصبحت جماعات لا جماعة واحدة».
فالذي أغضبه اختياره لعبد القادر عودة وسيد قطب وتعليله لاختيارهما، مع إسقاط شخصيته من التاريخ الفكري لـ«الإخوان المسلمين».
إن خلف الله كان مخطئاً في إلغاء اسمه في دراسة فكر جماعة «الإخوان المسلمين». فالغزالي إلى عام 1953، عام فصله منها، كان هو المنظِّر الأبرز في هذه الجماعة في مجال التنظير الإسلامي المعاصر. ولولا بعض المؤلفات التي كتبها عبد القادر عودة (أعدم سنة 1954)، لقلت عنه: إنه كان المنظِّر الأوحد فيها.
لا أدري ما الذي حدا بخلف الله أن يلغي اسمه: هل هو جهل منه بمؤلفاته من عام 1947 إلى عام 1953، أو أنه استند في هذا إلى حادثة فصله من جماعة «الإخوان المسلمين»؟
إن إبراز خلف الله اسمي عبد القادر عودة وسيد قطب إلى جوار اسم حسن البنا - الاسم الذي عنده يكاد أن يكون اسماً نبويّاً - في التاريخ الفكري لجماعة «الإخوان المسلمين»، مع إسقاط اسمه، جعلاه يتخبط من الغضب في «تعقيبه» على «بحث» خلف الله. وللحديث بقية.