منيرة أحمد الغامدي
في زمن التحولات المتسارعة تحتاج الأمم إلى قادة يجمعون بين الجذور الراسخة والرؤية المتطلعة، بين الحكمة التي تتوارثها الأجيال والطموح الذي لا يعترف بالحدود. وحين يتأمل السعوديون المشهد الوطني الذي أعاد تشكيل تفاصيل حياتهم خلال العقد الأخير، فإنهم يرون طريقا ممتدًا يصل بين شخصية الملك سلمان بن عبدالعزيز حين كان أميرًا للرياض وملامح الرؤية الطموحة التي يقودها اليوم ولي عهده الأمير محمد بن سلمان.
منذ أن تولى إمارة منطقة الرياض عام 1963، عُرف الملك سلمان بالجدية والانضباط، ليس فقط في إدارة الملفات الكبرى للمنطقة بل حتى في تفاصيل سلوكه اليومي، وانعكس ذلك على دقة التنظيم الإداري للمدينة.
كان سلمان الحزم يؤمن أن الانضباط لا يُفرض بل يُمارس، وأن القدوة تبدأ من القائد نفسه، وقد شهد المقربون منه أنه لم يتسامح مع الإهمال أو المجاملة حتى بين أفراد العائلة المالكة، إذ كان يتعامل مع الجميع على قاعدة واحدة وهي أن احترام النظام فوق كل اعتبار.
هذا النهج الصارم حول مدينة الرياض إلى نموذج إداري وتنظيمي متقدم بين العواصم العربية ومهّد لأسلوبه القيادي حين أصبح ملكًا.
وعندما اعتلى الملك سلمان العرش في يناير 2015، لم يكن ذلك مجرد انتقال للسلطة بل بداية مرحلة اتسمت بالحسم في القرارات والسرعة في التنفيذ والانفتاح المتوازن على العالم.
أولى أولوياته كانت إعادة هيكلة مؤسسات الدولة بما يعزز الكفاءة والشفافية، وفي عهده تم إطلاق رؤية المملكة 2030 كأكبر مشروع تنموي شامل في تاريخ المملكة يرتكز على تنويع مصادر الدخل وتمكين الشباب والتحول الرقمي وتحسين جودة الحياة.
جاءت هذه الرؤية مدفوعة بثقة كبيرة في الأمير محمد بن سلمان الذي أُوكلت إليه ملفات حساسة واستراتيجية منذ وقت مبكر، فتحرّك بعقلية تنموية عالمية الطابع واضعًا نصب عينيه أن تكون السعودية لاعبًا محوريًا لا فقط في الاقتصاد بل في الابتكار والتقنية والثقافة والمناخ.
لقد تغيّر المفهوم الوظيفي للدولة في السعودية من كيان راعٍ إلى شريك ممكن ولم تعد الدولة فقط توفّر بل تمكّن وتفتح المجال للمبادرات الفردية، وتبني قطاعًا خاصًا قادرًا على القيادة دون أن تتخلى عن دورها الضامن للعدالة الاجتماعية والاستقرار القيمي.
إن التحول السعودي يمثل انتقالًا واعيًا من «دولة الريع» إلى «دولة الرؤية»؛ إذ يجري تفكيك النموذج الريعي تدريجيًا لصالح نموذج إنتاجي ومستدام يقوم على العمل والكفاءة والتنافسية ويعيد تعريف قيمة العمل في الثقافة المجتمعية.
في عهد الملك سلمان وولي عهده شهدت السعودية تحولات اجتماعية عميقة وغير مسبوقة وبدأت بتوسيع دور المرأة سواء في القيادة أو سوق العمل إجمالًا أو المشاركة في الشأن العام.
تغيّرت القوانين وتغيرت النظرة وبدأ المجتمع السعودي يتصالح مع ذاته ويعيد تعريف علاقته بثقافته دون أن يتخلى عن قيمه الراسخة.
إن ما يميز التجربة السعودية ليس فقط طموحها المادي بل إنها تتأسس على قناعة بأن التنمية ليست نقيضًا للهوية بل امتداد لها، فالرؤية الجديدة ليست قطيعة مع الماضي بل هي محاولة واعية لإعادة تفعيله في ضوء التحديات الحديثة.
إن الجمع بين العمق الديني والانفتاح الحضاري هو في جوهره مشروع فلسفي يعكس قدرة المملكة على أن تكون ذاتها في عالم متغير.
على الصعيد الدولي، تغيّر موقع المملكة في العالم ولم تعد تكتفي بدور المراقب، بل أصبحت من الدول التي تصنع القرار وخلال رئاستها لمجموعة العشرين عام 2020 استطاعت السعودية أن تدير واحدة من أصعب قمم العالم خلال جائحة كورونا. السعودية تحوّلت من مجرد منتج للطاقة إلى شريك في التحول الأخضر العالمي، وأُطلقت مبادرتا «السعودية الخضراء» و»الشرق الأوسط الأخضر» لتصبح المملكة أول دولة نفطية تقدم مبادرات عملية في مجال الحياد الكربوني والطاقة المتجددة والتشجير ومكافحة التصحر.
لم تعد السعودية تنظر إلى موقعها الجغرافي كمعطى ثابت بل كمورد استراتيجي، فموقعها بين قارات العالم الثلاث أصبح محورًا في السياسة اللوجستية والاقتصادية من خلال مشاريع الموانئ والربط البري والبحري حتى أصبحت المملكة تلعب دورًا في تشكيل الخريطة الاقتصادية العالمية وليس فقط التفاعل معها.
وفي قلب هذه الرؤية وُلدت مشاريع كبرى غيرت من نظرة العالم للمملكة مثل مشروع «نيوم» الذي يمثل مختبر المستقبل، ومدينة «ذا لاين» التي تعيد تعريف مفهوم المدينة، ومشروع «أوكساجون» المخصص للصناعات الذكية، ومخطط «الرياض الكبرى» الذي يسعى لتحويل العاصمة إلى واحدة من أكبر عشر مدن اقتصادية في العالم.
هذه المشاريع ليست دعائية بل نماذج يتم بناؤها فعلًا على الأرض بتقنيات تفوق الحاضر وبشراكات دولية وبفكر عمراني يضع الإنسان في قلب التنمية، وهي تعبير عن الطموح غير المسبوق الذي يحمله الأمير محمد بن سلمان والذي بات لا يتحدث فقط عن المستقبل بل يصنعه.
وسط هذه التحولات الهيكلية الكبرى، لم تغب عن الرؤية الأبعاد الأخلاقية التي تؤمن بأن الإنسان ليس مجرد عامل إنتاج بل هو كائن مكرم يحمل قيمة ذاتية، ولذلك جاءت البرامج المعنية بجودة الحياة، وتمكين الأسرة ومكافحة العنف ودعم الصحة النفسية لتؤكد أن الدولة لا تسعى فقط إلى الرفاه الاقتصادي بل إلى الارتقاء بالكرامة الإنسانية.
في السياسة، ظل الملك سلمان يتمتع بثقل استثنائي في المنطقة وأعاد التوازن للعلاقات الخليجية، ووجّه بدور سعودي فاعل في ملفات اليمن وسوريا وليبيا مع الحفاظ على علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة والصين وروسيا وأوروبا، وأثبتت الدبلوماسية السعودية بقيادته وبطموح وهمة ولي عهده أنها قادرة على لعب دور الوسيط والحليف وصانع المبادرات في الوقت ذاته.
وفي الاقتصاد تم إطلاق مشاريع الخصخصة وإعادة هيكلة الدعم وتطوير قطاع السياحة وفتح أبواب الاستثمار الأجنبي وارتفعت مؤشرات النمو وحقق صندوق الاستثمارات العامة نموًا مذهلًا جعله من بين أكبر الصناديق السيادية عالميًا، وتحوّلت رؤية 2030 من مجرد خريطة طريق إلى محرك شامل لجميع مؤسسات الدولة.
في التاريخ السياسي نادرًا ما يلتقي الاستقرار مع التغيير إلا أن السعودية تقدم نموذجًا استثنائيًا حيث تواكبت شرعية التاريخ مع جرأة التحول ويكاد هذا النموذج يُشبه من حيث بنيته تجربة سنغافورة أو كوريا الجنوبية، لكنه يتميز عنهما بخصوصيته الدينية والثقافية التي جعلت منه مشروعًا فريدًا ومتميزًا.
ما يميز العلاقة بين الملك سلمان وولي عهده أنها ليست علاقة تقليدية بين جيلين، بل علاقة شراكة استراتيجية بين الحكمة والتجديد، فالملك سلمان بخبرته العميقة وإرثه الإداري وفّر الغطاء والشرعية والاستقرار، بينما أطلق الأمير محمد ديناميكية التطوير والتوسع وإعادة التفكير بكل شيء. تتجلى هذه العلاقة في التوازن بين الحفاظ على الثوابت الدينية والثقافية وبين فتح أبواب الاجتهاد والإصلاح، وفي الوقت الذي تُبنى فيه المدن الذكية وتُطرح المشاريع الرقمية، تُبنى في المقابل مبادرات لتعزيز القيم ودعم الأسرة وتمكين العمل الخيري وتأصيل الانتماء.
يظهر هذا التوازن أيضًا في الخطاب الإعلامي والسياسي، حيث لم تعد المملكة تكتفي بالدفاع عن نفسها، بل باتت تبادر في شرح سياساتها وتقديم نفسها كنموذج للاستقرار في منطقة مضطربة.
ولم يعد المواطن مجرد متلقٍ للرسائل، بل أصبح جزءًا من صناعة الوعي، وأداة لنقل صورة الوطن الجديدة إلى العالم.
وفي التعليم والصحة تم توسيع رقعة الابتعاث وتحسين البنية التحتية للمستشفيات واعتماد نظام التأمين الطبي للمواطنين وتطوير البرامج التخصصية في الجامعات، وفي الوقت ذاته أُطلقت مبادرات للتدريب والتوظيف وتأهيل الشباب ودعم ريادة الأعمال خاصة في مجالات التقنية والطاقة والسياحة والترفيه.
إن الملك سلمان بن عبدالعزيز ليس فقط ملكًا حكم في مرحلة صعبة، بل هو رجل دولة أسس لاستقرار طويل الأمد، وقاد عملية تحديث غير مسبوقة بروح محافظة وجذرية في آنٍ واحد، أما الأمير محمد بن سلمان فهو الابن السياسي لهذه المدرسة لكنه أضاف إليها قوة الدفع التي تحتاجها الدولة الشابة، واستطاع أن يعبّر عن طموحات جيل كامل يرى أن المستقبل لا يُنتظر بل يُصنع. وحين يُكتب تاريخ القرن الحادي والعشرين في الجزيرة العربية فإن الفصل السعودي سيُروى بلغة مختلفة، لغة جمعت بين عقل الدولة وروح الشباب وبين الحزم والحلم، بين حكمة سلمان وطموح محمد.