: آخر تحديث

السيدة المعجزة

1
1
1

«جريئة، لا تخاف. إذا أقدمت لا تتراجع، وإذا هاجمت لا تعتذر. وإذا وقفت على الأرض رفضت أن تسلم سلاحها»، هكذا كانت روزاليوسف التي جمعت إلى ذلك سحر الأنوثة والجاذبية والحنان، حسب مصطفى أمين الذي عمل معها عن قرب. وإذ تحتفل مصر هذه الأيام بـ«السيدة المعجزة» على حد قول الشاعر عبد المعطي حجازي، ومرور مائة سنة على انطلاقة مجلتها الشهيرة التي حملت اسمها، فإنما هو احتفاء بمرحلة ذهبية من تاريخ مصر والعرب أجمعين. زمن كان كل شيء فيه ينهض من سبات، والحيوية تعمّ القاهرة، وفاطمة اليوسف تسير في التظاهرات، وتجالس الرجال في المقاهي، وتخطط لفتح مجلتها، هي التي بالكاد تفكّ الحرف، إنما يملؤها الطموح، ويحركها الأمل، رغم تراجيدية مسارها.

فمن يصدق أن هذه اللبنانية الصغيرة، ولدت في طرابلس وتيتمت باكراً، وعهدت بها العائلة التي كانت تربيها إلى مسافر باتجاه البرازيل، فإذا به يتركها في الإسكندرية، ويكمل طريقه، وهي لا تزال في العاشرة، فتتحول إلى نجمة. كافحت وفي غضون سنوات، صارت اسماً مسرحياً لامعاً وهي تعمل مع كبار عصرها من عزيز عيد إلى جورج أبيض ويوسف وهبي الذي اختلفت وإياه فتركته لتلتحق بنجيب الريحاني، حيث لم يلق العمل معه هوى في نفسها.

الحبر سال مدراراً في مصر، بمناسبة المئوية، لفهم هذه الشخصية المركبة، والمثيرة لامرأة، وجدت نفسها «مقطوعة من شجرة» على حد وصف حفيدها، في بلد كبير، تشتعل فيه المنافسات، تدخل المسرح فتصبح نجمة على أغلفة المجلات، ثم تزج بنفسها في الصحافة فتتوج رائدة بين عمالقة القلم، وتخرّج دفعات من الكتّاب. وهي بشهادة الصحافي مصطفى أمين «لم تكن تعرف كيف تكتب، وكان خطها أشبه بخط طفل صغير، لكنها قارئة ممتازة وذواقة رائعة للأدب والشعر».

بقيت طفولتها اللبنانية محجوبة، لعلها لم ترد التحدث عنها، رغم كتابتها لمذكراتها. أما نضالها وقد تزوجت من ثلاثة مصريين، وأنجبت أديباً كبيراً مثل إحسان عبد القدوس، فيكشف عن سيدة قديرة، لها من العناد، والمشاكسة، والسعي اللامتناهي إلى الحرية، ما جعلها عاصفة من الحركة الذي لا تهدأ.

أمران أساسيان ساعدا هذه الفنانة لأن تنجح في الوصول إلى الصفوف الأولى. أولهما، المرحلة التنويرية التي كانت تعيشها مصر في تلك الفترة حيث تزامنت ثورتها الخاصة، مع افتتاح الجامعة المصرية، وحركة هدى شعراوي، وبروز نجم طه حسين مع صدور كتابه «في الشعر الجاهلي»، وإعجابها الشديد بالزعيم الوطني سعد زغلول وكرهها للاستعمار، ونزعتها التحررية. إذ يقال إنها أصدرت مجلتها لتكتب عن زملائها الفنانين بما يليق بهم، ومنهم من يقول بأنها أرادت أن تهجو يوسف وهبي الذي اختلفت معه، والبعض يرى أنها إنما أرادت أن تقول كلمتها في «حزب الوفد» وقائده الوطني سعد زغلول، رغم أنها لم تكن منضوية في الحزب.

لكن الأمر الآخر والحاسم الذي توجها على عرش الصحافة هو ذكاؤها الوقاد، ومعرفتها الفطرية بأنها مقتدرة بغيرها، وقد استطاعت بالفعل أن تجمع حولها فنانين وصحافيين موهوبين ورسامين، في مقدمهم محمد التابعي الذي رافقها عشر سنوات. ومع أن اسمها وحده على المجلة كان كفيلاً بأن يجعل الرجال يأنفون من العمل معها أو قراءة مجلتها، حيث كانوا يدارون الغلاف كي لا يكشف أمرهم، إلا أنها فازت في النهاية، واجتذبت غالبيتهم، بمن فيهم نجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل والأكثر عناداً وصدوداً عباس محمود العقاد.

في مقهى أو مبنى المجلة، كان يجتمع جماعة روزاليوسف من صحافيين ورسامين يعملون معاً كل في ميدانه، يساند بعضهم بعضاً. هكذا كان يمكن للسيدة الطموحة أن تصمد حين تصادر أعدادها، أو تساق إلى السجن، أو تعطل مطبوعتها. أمر مشابه يتحدث عنه المسرحي اللبناني روجيه عساف عن بيروت، يوم كان مقهى «الهورس شو» في الحمرا مكاناً للعمل الجماعي بين أناس مختلفين في الاختصاصات والمواهب، لكنهم يهدفون للوصول إلى أمر واحد، هو التعبير الفني بحرية واستقلالية. تلك كانت غاية روزاليوسف، التي مرة تبيع مصاغها، ومرة أخرى تخفض سعر أعدادها لتتخلص منها بالملاليم، ويسخر منها زملاؤها الفنانون، لكنها تعود وتقف شامخة. وبقيت السيدة المتمردة، تواجه الحكومات، وتختلف مع السلطات، حتى حين وصل جمال عبد الناصر إلى الرئاسة. لم تكن عدوة بل صحافية ناقدة، تريد أن تقول رأيها من دون تطويع أو تدجين، فكانت النتيجة أن سجن ابنها إحسان.

حفيدها محمد عبد القدوس لا يتردد في أن يصفها بأنها «استثنائية» و«معجزة إنسانية» بحق، بمسارها الفريد وإنجازاتها المدهشة، ثم أنها المرأة الأولى في مصر التي تحبس لأسباب سياسية، وكان ذلك في ثلاثينات القرن الماضي. ثم كيف لهذه اللبنانية أن تدخل عالم الصحافة الذي كان حكراً على الرجال، وتؤسس مجلتها، وحين تخشى عليها من الغرق، بدل أن تغلقها، تدعمها بمجموعة من المطبوعات. أي شجاعة! وأي جنون!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد