: آخر تحديث

ديستيوفيسكي والمدرسة التحليلية النفسية

2
3
3

في عالم الأدب والفلسفة، يبرز اسم فيودور ديستيوفيسكي (1821-1881) كواحد من أعظم الروائيين الذين سلكوا دربًا مُلهمًا لفهم النفس البشرية، لدرجة أن أعماله سبقت نظريات المدرسة التحليلية النفسية بعقود، لم يكن ديستيوفيسكي فيلسوفًا أو عالم نفس، لكن رواياته العميقة حول الصراع الداخلي، والذنب، واللاوعي، أرست حجر الأساس لفهمٍ أعمق للإنسان، حتى أصبح مرجعًا لعلماء النفس في القرن العشرين، خاصةً سيجموند فرويد وكارل يونغ.

قبل ظهور فرويد بفترة طويلة، كان ديستيوفيسكي يكشف في رواياته عن طبقات لاواعية تتحكم في سلوك الإنسان، مُستكشفًا مفاهيم مثل «الذنب الضميري» و»الصراع بين الرغبات والقيم»، التي أصبحت لاحقًا جوهر التحليل النفسي. في روايته «من مذكرات رجل تحت الأرض» (1864)، يصور كاتبًا ينكر العقلانية السائدة في عصره، ويؤكد أن الإنسان لا يُحكم دائمًا بمنطق المصلحة، بل بـ»المرارة» والرغبة في التمرد على الذات. يبدأ الرواية بجملة صادمة: «أنا رجل مريض.. أنا رجل حاقد»، ليُظهر أن الوجود الإنساني يتجاوز الحسابات العقلانية، وليُمهّد لفكرة فرويد عن «اللاوعي» كمُحرّك أقوى من العقل المدرك. هذه الفكرة، التي اعتبرها فرويد في مقاله «ديستيوفيسكي وقضية الابن المقتول» (1928)، كشفت أن ديستيوفيسكي «لم يكتفِ بوصف الصراع الداخلي، بل فكك بنية النفس قبل أن يُصيغها العلم.»

في «جريمة وعقاب» (1866)، يُعمّق ديستيوفيسكي استكشافه لعلاقة الجريمة بالذنب، حين يُظهر راسكولنيكوف، الطالب الذي يخطط لقتل عرّافة فقيرة لـ»تبرير» جريمته بفكرة «الرجل الاستثنائي»، كيف يتحوّل إلى ضحية للاوعي الذي يعاقبه قبل المحكمة. يُصرّح بقوله: «السلطة لا تُعطى إلا لمن يجرؤ على خفض رأسه ويلتقطها»، لكنه سرعان ما يكتشف أن «الذنب» ليس عقوبة خارجية، بل سجن داخلي لا يُهرب منه. هذه الصورة سبقت نظريات فرويد عن «السوبر إيغو» (الضمير) الذي يعاقب الفرد على أخطائه حتى قبل وقوعها، وجعلت رواية ديستيوفيسكي مرجعًا لعلماء النفس لفهم الآليات النفسية للذنب.

أما في «الإخوة كارامازوف» (1880)، فيطرح ديستيوفيسكي سؤالًا وجوديًّا يلمس جوهر الصراع النفسي: «إذا لم يكن هناك إله، فكل شيء مسموح»، ليُظهر كيف أن غياب المبادئ الأخلاقية المطلقة يُولّد فراغًا نفسيًّا يُهدّد استقرار الفرد. هذه الفكرة، التي تُشبه نظرية فرويد عن «العدوانية الكامنة»، أظهرت أن القيم الدينية ليست مجرد قيود اجتماعية، بل حاجزًا نفسيًّا يحمي الإنسان من الفوضى الداخلية. حتى اليوم، تُدرّس هذه العبارة في مناهج علم النفس الوجودي لفهم تأثير الغياب الروحي على الصحة العقلية.

لم تكن إعجابات فرويد بديستيوفيسكي عابرة؛ ففي مقاله المذكور، ربط بين حياة الكاتب (خاصة وفاة والده في ظروف غامضة) وتحليله لـ»العقدة الأوديبية» في شخصياته، معتبرًا أن ديستيوفيسكي «أدرك حقيقة الصراع بين الرغبة والضمير قبل أن يصيغها التحليل النفسي». أما كارل يونغ، مؤسس المدرسة التحليلية، فقد رأى في شخصيات ديستيوفيسكي «أركيتيبات» (نماذج كونية) تعبّر عن الصراع بين الضوء والظلام في النفس، مثل شخصية «آليوشا كارامازوف» التي تمثل «الذات المصلحة» في مواجهة شرور العالم.

في العصر الحديث، يؤكد عالم النفس الإكلينيكي إريك فروم في كتابه «الهروب من الحرية» أن ديستيوفيسكي سبق فرويد في فهم أن «الحرية المطلقة دون قيم تُولّد الرعب»، مشيرًا إلى أن رواياته تُظهر كيف يبحث الإنسان عن معنى يحميه من الفراغ الوجودي. أما الفيلسوف سلوفويج زيزيك، فيعتبر ديستيوفيسكي «رائدًا لعلم النفس البؤسي»، حيث يكشف في شخصياته عن أن «الإنسان لا يهرب من المعاناة، بل يبحث عن سبب يُبررها».

في النهاية، لم يكن ديستيوفيسكي مجرد روائي، بل «عالم نفس دون مختبر»، كما وصفه الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو. فبينما بَنَى فرويد نظرياته على ملاحظات سريرية، أظهر ديستيوفيسكي أن القوة الحقيقية لفهم النفس تكمن في قدرة الأدب على كشف ما يخفيه الوعي. اليوم، تبقى رواياته نافذةً تُذكّرنا بأن «الجمال سينقذ العالم»، كما كتب في «الرجل المجنون»، ليس لأن الجمال يُزيل الشر، بل لأنه يُذكّرنا أن الإنسانية، في أعماقها، تبحث دائمًا عن معنى يُعيد لها الأمل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد