: آخر تحديث

بود كاست تحت البطانية !

3
2
2

محمد الساعد

من لم يعمل في الإعلام التقليدي لا يستطيع أن يفهم لماذا كل هذه الطوام التي يخرجها لنا إعلام (البود كاست)، وهو مصطلح يمكن أن يطلق تجاوزاً على كل هذه البرامج التي تستخدم الكاميرا في إنتاج محتوى وتصديره للمشاهد عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهي طوام حقيقية من حيث المضمون والمعلومات والضيوف.

ولعلنا نتذكر حلقة «البطانية»، التي جمعت مذيعاً مع ضيفة على كنبة واحدة، دون أن يكون لديهما الحد الأدنى من التردد أو خشية ردة فعل الجمهور، ولعل هذا يأتي من جهل بالحدود الفاصلة بين الممكن تقديمه وغير الممكن، أو لعله البحث عن «الترند» حتى ولو كان كاسراً لكل قيم المجتمع.

بود كاست آخر يستضيف أحد الأشخاص، نفى فيه أن يكون «بخور العود» أحد عناصر التراث المحلي، ملغياً - دون وعي - موقع الجزيرة العربية كطريق ثابت على مدى 5,000 سنة لتجارة البخور.

وبلا أدنى شك هو لا يعلم أن اليونسكو تعتبر أن «التراث غير المادي» – مثل استخدام البخور والعود - يصبح تراثاً مسجلاً إذا مضى على وجوده أكثر من 75 سنة، فما بالنا بتراث يستوطن الجزيرة العربية منذ أكثر من 5,000 سنة!

قبل أشهر فوجئ الجمهور بخروج حلقة بود كاست يتحدّث فيها الضيف والمقدم عن أمور الصحة الجنسية للنساء، أمور لا تناقشها المرأة حتى مع طبيبتها الخاصة إلا في ظروف خاصة وخلف الأبواب المغلقة، ومع ذلك كانوا يتحدثون عنها بكل أريحية وكأنهم يناقشون موضوعاً عن القطط.

ولا ننسى الحلقة التي تهجم فيها ضيف على النساء، متهماً إياهن بكل أنواع التهم وتعدى عليهن بطريقة مهينة.

بالطبع الأمثلة من هذا النوع كثيرة، لكن الحقيقة التي يهرب منها الكثير هي: هل فكرة استبدال الإعلام التقليدي بالبود كاست صحيحة، دون التزام بمعايير ومنهجية المهنية الصحفية الصارمة، التي بقيت للأسف داخل أبنية المؤسسات الإعلامية المختلفة، لا لشيء إلا لأن أحداً ما قال عبر هذا العالم لقد انتهت الصحافة بشكلها التقليدي وبدا دور الإعلام الجديد، فصدقناه وتبنينا أفكاره دون أن نطالبه بشرح فكرته وما حدودها الأخلاقية والمهنية.

نحن نعيش اليوم في حالة فوضى «بود كاستية» لا يمكن تصورها؛ لان مهمة الإعلام انتقلت من المؤسسات إلى أفراد لا تراكمَ مهنياً لديهم ولا قيم وظيفية يرجعون لها.

ودعونا نقرّب المقال قليلاً: لنتخيل أن مهمة العلاج وإجراء الجراحات الطبية انتقلت من المؤسسات العلاجية إلى الأفراد العاديين، وأن مهمة الطيران بالطائرات يقوم بها كل من يستطيع فتح باب الطائرة، هل ستقبل عزيزي القارئ أن يجري لك عملية في القلب جرّاح لأول مرة يمسك المشرط؟ وهل ستقبل أن تسافر مع شخص كل تجربته مع الطيران أنه سافر ذات يوم؟

لقد استسلمنا لفكرة الإعلام الجديد، دون أن نتذكر رحلة المادة الصحفية في أي مؤسسة إعلامية تقليدية، التي تبدأ من صحفي ميداني لا يجرؤ على تقديم خبره قبل أن يتدرب لأشهر طويلة ثم تذهب مادته لمحرر الصياغة الذي يتأكد من سلامة المادة من حيث الأسلوب اللغوي، ومن مصداقية الخبر أو ما يتضمنه المحتوى، ثم تذهب إلى مستوى أعلى للإجازة، وهذا المستوى يوجد به على الأقل ثلاثة من الصحفيين الكبار ذوي الخبرات الطويلة، ثم رئيس التحرير ثم النشر، هذه الرحلة تستغرق بضع ساعات لكنها تشرح الكثير من المعلومات وتحد من الأخطاء والشائعات وتبعد الرأي الشخصي من المادة.

قيم مهنية غير موجودة اليوم في معظم الإنتاج الإعلامي، في سوق أقرب ما يكون إلى فوضى غير خلاقة، نعم تقوم الأجهزة الرقابية بملاحقتها مشكورة وعلى رأسها هيئة تنظيم الإعلام، لكنها ستبقى في دور الملاحقة فقط، ما لم تترسخ قيم المهنية داخل الإعلام الجديد، ونخرج من فردية الإعلام إلى المؤسساتية، ويمنع الأفراد من العمل في الإعلام دون خبرة أو معرفة أو مظلة إعلامية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد