: آخر تحديث

مفهوم العدالة... مع التفسير العلمي لا الثوري

2
2
2

مع أي اطلاعٍ على نظرية العدالة وتحولاتها نكتشف أنها شارحة لمستويات تطوّر الإنسان عبر العصور، فهي تتغير معه وتتأثر بصدماته وبتمثّلاته للواقع وبوجوده في العالم.

لم تتأثر النظرية مباشرة بالعلوم بقدر ما تطوّرت بسبب تغيّر الإنسان ونمط تأقلمه مع الناس والمجتمعات والعوالم، فهي نظرية متشظّية تنهل من ينابيع الفلسفة والاجتماع والسياسة والقانون.

وما إن تحدث تغييرات في المعادلات السياسية، إلا ويعود الجدل حول مفهوم العدالة بالمعنى الدقيق، وما سلم المفهوم من استغلاله آيديولوجياً من تيارات اليسار إلى «الإخوان المسلمين» إلى الجماعات الثوريّة المتمرّدة والأحزاب الانفصالية، بغية الاستعمال السياسي المحض، فهو مفهوم آسر يدغدغ مشاعر الشعوب التي تتأثر بالخطابات الديماغوجية المستفيدة دائماً من القشور الفلسفية والدينية والاجتماعية، لم يكن كتاب سيد قطب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» الصادر عام 1949 إلا وسيلة للدخول إلى المجتمع والتأثير عليه بخطابٍ ظاهره اجتماعي عدلي، وباطنه أصولي ثوري، وتقريباً لكل زعيمٍ آيديولوجي منشورٌ أو محتوى عن العدالة.

عبر التاريخ، لم يخلُ مشروع لفيلسوف من مقاربة عابرة أو مركّزة لهذا المفهوم، لكن تجذّر تعريفه بشكلٍ علمي صارم في نظريات العقد الاجتماعي، من هوبز إلى روسو وكانط، وآخرهم وأحدثهم تناولاً للمفهوم الفيلسوف الأميركي جون راولز الذي عكف على هذا الموضوع في كتابه «نظرية العدالة»، نشره عام 1971. لقد طوّر من نظريّته كثيراً وعدّل عليها حتى أصدر كتابه المنقّح تحت عنوان: «العدالة كإنصاف - إعادة صياغة»، صدر عام 2001.

قبل أيام لفتني مثال مهم ورد في مادة بعنوان: «مبادئ العدالة تُصْطَفى خلف حجابٍ من الجهل - جون راولز»، ونُشرت في مجلة «حكمة»، والمثال كالتالي: «لنتخيل جماعة من الغرباء ينقطع بهم السبيل في جزيرة مهجورة، وبعد أن يزايلهم أمل الإنقاذ، يقررون أن يؤسسوا مجتمعاً جديداً من لا شيء. كل واحد من الناجين يريد أن يعزز مصالحه، وفي الوقت نفسه جميعهم يرون أن السبيل الوحيد لتعزيز مصالح كل واحد هو بالعمل سوياً، أي من خلال صياغة عقد اجتماعي. والسؤال هو: كيف يتهيأ لهم تأسيس مبادئ العدالة؟ وأي مبادئ يصطفون؟ إن كانوا حريصين على اجتراح عدالة عقلانية ومتجردة، فهنالك عدد لا حصر له من القوانين التي يجب أن يهملوها فوراً. على سبيل المثال، قانون (إذا كان اسمك جون، يجب أن تأكل أخيراً)، ليس عادلاً أو نزيهاً، وحتى لو كان لمصلحتك كون اسمك جون، فلن يكون كذلك».

سوف نعثر على تبويبٍ مهم لذلك المثال في كتابه: «العدالة كإنصاف»، إذ رأى أن «الفكر الديمقراطي أظهر ومنذ قرنين تقريباً، أنه لا يوجد أي إجماعٍ حول الكيفية التي ينبغي أن تنتظم حسبها المؤسسات الأساسية داخل نظامٍ ديمقراطي، إذا كانت مطالبة بتحديد وتأمين الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، وبالاستجابة لمقتضيات المساواة الديمقراطية. هناك اختلاف عميق حول الكيفية التي يمكننا أن نحقق من خلالها قيم الحرية والمساواة، في إطار البنية الأساسية للمجتمع على أحسن وجه، لنقل لأجل تبسيط ذلك إن هذا الصراع الداخلي بالنسبة لتراث الفكر الديمقراطي هو نفسه الذي أثير بين تقليد لوك الذي يولي أهمية أكبر لما يدعوه بنيامين كونستطان بحرية المحدثين، أي حرية التفكير والاعتقاد، وبين بعض الحقوق الأساسية المتعلقة بالشخص والملكية، وبين تقليد روسو الذي يركز على حرية القدامى، أقصد تساوي الحريات السياسية وقيم الحياة العمومية، من المؤكد أن هذا التقابل يفتقر للدقة والصحة التاريخية، غير أن بإمكانه أن يتخذ وسيلة لتثبيت الأفكار».

معيار راولز للعدالة يتحدد في إخضاع التفاوتات الاجتماعية لترتبط بوظائف ومواقع مفتوحة بوجه الجميع، حسب الشروط المنصفة لتكافؤ الفرص، وكذلك يجب أن تكون التفاوتات «لصالح الأفضل للأعضاء الأكثر حرماناً في المجتمع». وبنظري، فإن هذا لبّ نظرية راولز، وهو جوهر بحثه كله في معيار العدالة.

الخلاصة أن استعمال مفهوم العدالة الشائع والشعبي يجب أن يحارب بالنظرية العلميّة الدقيقة، لأن التيارات الآيديولوجية تريد لهذا الجدل أن يستمر لغرض إشاعة الفوضى ونشر الدمار.

إن مفهوم العدالة بالمعنى العلمي مختلف جذرياً عن الذي يطرحه أولئك القوم في منشوراتهم ومنصاتهم، ولهذا لا بد من الحذر من هذه الموضات الفوضوية التحريضية المنطلقة من «جهلٍ ماكر»، وأن نواجهه بالتعريف العلمي الصارم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد