نجيب يماني
حين يخذلك إنسان وضعت كل ثقتك فيه وأهديته محبة صافية ووداً خالصاً، فإنك لا تشعر بخسارة شخص فحسب، بل بخيانة لجزء أصيل من قلبك الذي صدّق الوعد وآمن بالعهد. الخذلان شعور يطرق قلبك حين تكتشف أنّ من وضعت فيهم ثقتك، وأفرغت لهم أسرارك، وأعطيتهم من روحك بلا حساب، قد تركوك في منتصف الطريق، وكأنّك لم تكن شيئاً في حياتهم ليصبح النبض أكثر حذراً، وأكثر صمتاً، كأنه تعلم أن الفرح مؤقت، وأن الأمان هش، وأن الثقة تحتاج إلى عمر كامل لتُبنى ولحظة واحدة لتهدم.
إنه شكل آخر للحياة، حياة بنبضٍ يضع حدوداً، ويخشى أن يُسلم نفسه كاملة مرة أخرى، لتدرك لحظتها أن القلب لم يعد يخفق كما كان، فقد سرق الخذلان منه شيئاً لن يعود.
كان النبض يرقص فرحاً لأصغر التفاصيل، ويتسارع حين يرى ملامح الأمان في عيون من أحب، لكن ما أقسى الرجوع وأصعبه؛ لأن هناك جزءاً من قلبك لن يعود كما كان ينبض، فالخذلان جرح الروح العميق يحمل في داخله وجعاً يفوق الاحتمال.
يتجاوز الشخص الذي قام به، ليضرب جذور الإيمان الإنساني بالآخرين، فيجعل المخذول يتساءل: هل الثقة قيمة زائفة؟ وهل الحب مجرد سراب؟
إنها مرارة لا تتذوقها الحواس، بل يتجرعها القلب والروح في صمت موجع، كأنها سم يتسرب ببطء إلى عروق الحياة.
هو ليس مجرد فعل عابر، ولا كلمة تقال في لحظة غضب، بل هو حالة وجدانية عميقة، جرح غائر يصيب الروح قبل أن يمس الجسد، ويترك فيها أثراً قد لا يندمل مهما تقادمت الأيام، لحظة يتكسر فيها زجاج الثقة على صخرة الواقع، فيتحول الأمان الذي أُعطي بسخاء إلى خوف، والود إلى حذر، والحب إلى ألم دفين.
الخذلان ليس صفة تولد مع الإنسان، وإنما هو سلوك مكتسب يتشكل من بيئة وتجارب ومشكلات وسوء اختيار، فالإنسان يولد على الفطرة، ميالاً إلى الصدق والوفاء، لكن التواءات الحياة قد تدفع البعض إلى التنكر للعهود ونقض المواثيق. وقد يأتي الخذلان بدافع المصلحة، أو من ضعف في النفس، أو من قلب لم يعرف قيمة الحب والثقة.
ومن هنا نفهم أن الخذلان فعل اختياري، وليس قدراً محتوماً، وهو من أصعب المشاعر التي يمكن أن يواجهها الإنسان.
قرار يتخذه الخاذل حين يقدّم أنانيته على وفائه، ومصلحته على إنسانيته هو شعور مؤلم وخيبة أمل ناتجة عن كسر الثقة أو عدم تحقيق التوقعات، ويؤدي إلى الشعور بالوحدة والألم النفسي العميق.
تجربة قاسية حيث يصبح من وثقت به واستندت عليه طرفاً يسهم في معاناتك، ويختلف رد فعل المخذول باختلاف طباع البشر وعمق الجرح.
هناك من يتقوقع على ذاته، فيغلق أبواب قلبه ويرفض منح الثقة من جديد، فيعيش أسيراً لجدران من الشك والخوف.
وهناك من يحاول التماسك، فيحوّل الخذلان إلى درس قاسٍ يجعله أكثر وعياً وصلابة، وإن كان ذلك على حساب جزء من براءته.
وهناك من يسامح، لا ضعفاً وإنما تجاوزاً؛ لأنه يدرك أن الغرق في مرارة الخذلان لا يجدي، وأن التسامح هو السبيل الوحيد لاستعادة طمأنينة القلب.
ومع ذلك، يبقى الأثر غائراً، فالمخذول لا ينسى بسهولة؛ لأنه يترك ندبة في الروح، حتى لو شُفي الجرح، فالخذلان يغير الإنسان في العمق يزرع في قلبه ريبة من الآخرين. يطفئ شيئاً من حماسته للحياة يجعله يتردد في منح الحب والثقة من جديد.
وقد يصنع منه إنساناً أكثر حكمة، وأكثر إدراكاً لقيمة الوفاء، فالخذلان هو امتحان للروح إما أن يحطمها، وإما أن يعيد صياغتها بقوة وصلابة.
هو في جوهره ليس ضعفاً في المخذول، بل انكسار في الخاذل.
فالمخذول قد أحب وأوفى وصدق، وهذه صفات القوة والإنسانية. أما الخاذل فقد خان ونقض العهد، وهذه هي علامات الضعف والأنانية.
الخذلان، مهما كانت مرارته، يعلّمنا أن الثقة أثمن ما نملك، وأن منحها لا يكون إلا بوعي، وأن القلوب الصافية تظل أرفع شأناً من أولئك الذين اعتادوا كسرها.

