: آخر تحديث

الخداع البصري.. حين تُزيَّف الحقيقة بإتقان

2
3
3

سارا القرني

في زمنٍ تتشابك فيه الصور وتختلط فيه الأصوات، أصبح الخداع البصري جزءًا من حياتنا اليومية، يتسلّل إلى وعينا دون أن نشعر، ويقنعنا بأن الوهم هو الحقيقة، وأن الزيف هو الواقع.

ما يُصدَّر لنا اليوم من خلال وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ليس إلا مشاهد مُتقنة الإخراج، صُنعت بعناية لتخدع العيون وتكسب التصفيق.

كثيرون ممن يظهرون اليوم في المشهد الإعلامي أو الثقافي ليسوا مؤثِّرين حقيقيين، بل ممثِّلون بارعون في أداء أدوار لا تشبههم، يتقنون فنَّ اللعب على الجمهور، وبيع صورةٍ لا تمتّ للحقيقة بصلة.

تراهم يتحدثون بثقةٍ مصطنعة، لكن حين توضع وجوههم في إطار الواقع، حين تُزال الكاميرات والأضواء، تسقط الأقنعة فجأة، فنكتشف أن ما كان يُعرض علينا لم يكن فكرًا ولا ثقافة، بل مشهدًا تمثيليًا محكمًا خالٍ من المضمون. في لحظات المواجهة، حين يُطلب من هؤلاء أن يُثبتوا ما يزعمون، ينكشف العجز الحقيقي. حين يُسألون عن رأيٍ أو تحليلٍ أو موقفٍ صادق، يظهر الفراغ الذي حاولوا تغطيته بالشهرة، ويتعطل اللسان الذي كان يتكلم كثيرًا خلف الشاشات. وهكذا يسقط الخداع البصري، حين يصطدم بما لا يمكن تجميله: الحقيقة.

والمؤسف أن هذا الخداع لا يصنعه الأفراد فقط، بل تشارك فيه بعض المؤسسات الإعلامية التي تتبنّى هذه النماذج، وتمنحها المنابر، وتُصدّرها للمجتمع على أنها رموزٌ فكرية أو ثقافية. بحجة «منح الفرص»، تُفتح الأبواب لوجوهٍ لا تحمل سوى ضجيجٍ إعلامي فارغ، بينما يتم تجاهل أصحاب الكفاءة والموهبة الحقيقية، الذين لا يجيدون التسويق لأنفسهم بقدر ما يجيدون العمل بصدقٍ وعمق.

إن من أكبر الأخطاء أن تُقدَّم هذه النماذج بوصفها واجهة المجتمع، لأنها تسيء إليه أكثر مما تخدمه. حين يصبح «السطح» هو المعيار، وحين يُكافأ من يتقن الخداع أكثر من من يتقن العطاء، فإننا نُنتج أجيالًا لا تعرف الفرق بين الجوهر والمظهر، بين الثقافة والتقليد، بين الحقيقة والوهم. المشكلة ليست فقط في «المشهور الفارغ»، بل في من يصنعه ويُقدّمه لنا على أنه قدوة.

فمن المنطقي أن يُحاسَب من يضلّل الناس بمحتوى تافه، لكن من الأهم أن تُحاسَب القنوات والمنصات التي صنعته وسوّقته. لأنها هي التي قررت أن ترفع «اللاشيء» وتجعله شيئًا، أن تمنح الموهبة المزيفة ضوءًا لا تستحقه، أن تُغري الناس بالفراغ تحت مسمى «الترفيه» أو «الحرية».

الخداع البصري لا يقتصر على الصور، بل يتجاوزها إلى العقول. إنه يخدر الإدراك، يجعل الناس يصدقون أن الشهرة دليل كفاءة، وأن الظهور يعني الإنجاز. بينما في الواقع، كثيرون ممن في الظلّ يصنعون المعنى الحقيقي، ويبقون رغم صمتهم هم النور الذي يبدد هذا الزيف.

ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من «المؤثِّرين»، بل مزيدًا من الصادقين، من يملكون فكرًا لا وجهًا جميلًا فقط، من يقدّمون محتوى يرتقي بالعقول لا يُغذي الغرور. فالقنوات التي تصدّر لنا هذه النماذج تتحمّل المسؤولية، لأنها منحت «الفراغ» صوتًا، وجعلت من الضوضاء فنًا.

أتمنى أن نرى يومًا يُحاسب فيه من يُروّج لهذا الخداع كما يُحاسب من يمارسه، لأن من يصنع الوهم لا يقل خطرًا عمن يبيعه. ولعلّ هذا هو الوقت المناسب لإعادة ترتيب المشهد الإعلامي، ليعود صوت الحقيقة واضحًا، وصورة الفكر صادقة، بعيدًا عن كل قناعٍ سقط، وكل وهجٍ كان زائفًا منذ البداية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد