سلطان السعد القحطاني
يُشبه الشرق الأوسط، بصراعاته المزمنة، فيلم Groundhog Day، حيث يعيش الأبطال اليوم نفسه مراراً دون تقدم حقيقي. فالمآسي تتكرر، والعناوين الإخبارية تعيد نفسها، وكأن الزمن متوقف عند لحظة الصراع. ويبرز الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بوصفه المثال الأوضح لهذا التكرار الموجع؛ إذ تتبدل الوجوه وتتغير الشعارات، لكن جذور الأزمة تبقى على حالها. ومع ذلك، فإن التاريخ علمنا أن المحن قد تتحول إلى منح، إذا وُجدت الإرادة السياسية والدبلوماسية الصادقة.
شهدت المنطقة خلال الأعوام الماضية تصاعداً في التوترات، وكان آخرها هجوم حماس الذي ذكّر العالم مجدداً بأن تجاهل القضية الفلسطينية ليس مجرد خطأ سياسي، بل تهديد مباشر للاستقرار العالمي. فالقضية، التي كانت يوماً محور اهتمام العالم العربي، باتت اليوم تُعامل كملف جانبي في حين أنها جوهر الصراع في المنطقة. لا يمكن لأي ترتيبات أمنية أو تطبيع سياسي أن ينجح إذا بقي الفلسطينيون خارج المعادلة، وإذا لم يُعترف بحقهم في إقامة دولتهم المستقلة وفق حل الدولتين الذي يشكل الأساس لأي سلام عادل ودائم.
الدبلوماسية، رغم كل ما يقال عن بطئها، تبقى السبيل الأنجع لتحقيق السلام. وأكاد أجزم بذلك أكثر بعد التجربة التي عشتها شخصياً في مدينة بلفاست، خلال الذكرى الخامسة والعشرين لتوقيع اتفاق الجمعة العظيمة عام 1998، الذي أنهى عقوداً من الصراع الدموي في أيرلندا الشمالية. رأيت بعيني كيف تحولت المدينة التي كانت يوماً ترزح تحت وطأة القنابل والاغتيالات إلى رمز للسلام والتعايش. وفي تلك المناسبة، التقيت السيناتور جورج ميتشل، الذي لعب الدور المحوري في رعاية المفاوضات. تحدثنا حديثاً سريعاً، لكنه كان مليئاً بالتفاؤل. قال بثقة إن الدبلوماسية، مهما بدت بطيئة أو معقدة، قادرة في النهاية على معالجة كل الصراعات، ما دامت هناك إرادة سياسية حقيقية.
كان ميتشل يؤمن بأن الحوار ليس ضعفاً بل شجاعة، وأن الجلوس إلى الطاولة أصعب من خوض المعارك. وقد بدا تأثيره واضحاً خلال الاحتفال، حين اجتمع في بلفاست زعماء وسياسيون مثل توني بلير وبيل وهيلاري كلينتون وغيرهم، ليؤكدوا أن ما تحقق في أيرلندا يمكن أن يتحقق في أماكن أخرى، إذا توفرت القيادة والإيمان بالسلام. حتى التمثال الذي أزيح الستار عنه تخليداً لميتشل في الجامعة لم يكن مجرد نصب تذكاري، بل رسالة بأن الدبلوماسية تترك أثراً أعمق من أي حرب.
في الشرق الأوسط، لا تزال الفرصة قائمة لتكرار هذه التجربة، إذا تم تمكين المعتدلين من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. فالحوار لا يعني التخلي عن الثوابت، بل البحث عن حلول تحفظ الكرامة وتضمن الأمن للجميع. في المقابل، فإن تجاهل هذه القضية، أو استمرار الانتهاكات الإسرائيلية، لن يؤدي إلا إلى مزيد من التطرف والدمار. كما أن على السلطة الفلسطينية أن تعيد بناء مؤسساتها وتستعيد ثقة الشارع الفلسطيني، كي تكون شريكاً قادراً على صنع السلام لا متفرجاً عليه.
الدبلوماسية ليست مجرد وسيلة بل فلسفة حياة تقوم على الشراكة والتفاهم وتجنّب الحروب. في عصر العولمة، لم تعد الحدود تحمي أحداً، وأصبح الأمن مترابطاً، والاستقرار مسؤولية جماعية. العالم اليوم يتجه نحو المصالح المشتركة لا الصراعات القديمة، لكن الشرق الأوسط لا يزال عالقاً في ماضيه. إذا استمر هذا الجمود، فإن الأجيال القادمة ستولد في دوامة كراهية جديدة.
لقد أثبتت بلفاست أن المصالحة ممكنة مهما بدا الانقسام عميقاً. ما تحتاجه منطقتنا هو «قمة مصالحات عربية – إقليمية» شبيهة بتلك التي استضافتها جدة مؤخراً، تضع أسساً جديدة للسلام، وتعيد الاعتبار للحوار والدبلوماسية. في النهاية، لا بديل عن التفاهم. فالحروب تستهلك الشعوب، أما الدبلوماسية فتبنيها.
الشرق الأوسط يستحق أن يخرج من دوامة «اليوم المكرر»، وأن يكتب فصلاً جديداً من تاريخه، عنوانه: السلام بالذكاء لا بالقوة.
فكما قال جورج ميتشل يومها بابتسامة هادئة: «كل صراع قابل للحل إذا تكلّم الناس بدلاً من أن يقاتلوا».

