الحروب والمَقاتل الكُبرى التي تقع على بني الإنسان المسكين ليست مُجرّد أرقام نسمعها من نشرات الأخبار أو نقرأها على منصّات السوشيال ميديا، كل رقم فردي منها هو حياة إنسان، ونهايته الحزينة، هو زفرات حارّة، وحياة مسروقة على يد القاتل، هو أمنيات مدفونة، وهواجس ذابت على لهيب الموت.
مثلاً ما يجري في السودان الجريح، من قتل الأخ لأخيه بدمٍ بارد، وآلاف الجنود القتلة والمقتولين، وأكثرهم يُساقون كالأنعام أو مخلوقات الزومبي إلى الموت وهم ينظرون، وفي مرّات كثيرة، يغتبطون!
تُرى لو قُدّر لنا أن نصغي إلى كلام كل فردٍ من القتلة والمقتولين، لتبيّن لنا أنهم بشرٌ عاديون، لكنهم في حِسبة الأرقام الكبيرة كُتلٌ صمّاء، بلا حرارة الإنسان.
تخيّلتُ الأمر أبعد من السودان زمناً ومكاناً، تخيّلت الجنود الذين سِيقوا لحروب التاريخ التي نقرأ عنها، هل كانت لديهم أحلامٌ وهواجس صغيرة أو كبيرة، هل كانوا بشراً كسائر البشر، أم آلات قتلٍ عمياء؟!
قبل أيام عُثر على رسائل في زجاجة كتبها جنديان أستراليان عام 1916، بعد أكثر من قرن، على الساحل الجنوبي الغربي لأستراليا، وفقاً لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي).
رجّح الخبراء أن القوارير التي تحتضن الرسائل كانت مدفونة في رمل الساحل لأكثر من مائة عام! حتى عثرت عليها سيّدة أسترالية مع أسرتها، اعتادت تنظيف الساحل من القمامة.
أخبر أحد الجنديَين، كما جاء في الخبر، وهو الجندي مالكولم نيفيل، والدته أن الطعام على متن السفينة كان «جيداً جداً» وأنهم كانوا «في غاية السعادة». بعد أشهر، قُتل في المعركة عن عمر يناهز 28 عاماً. أما الجندي الآخر، ويليام هارلي، البالغ من العمر 37 عاماً، فقد نجا من الحرب وعاد إلى وطنه.
التجربة كانت «لا تُصدق» بالنسبة لعائلة الجندي الأول، خصوصاً قريبته ماريان ديفيز البالغة من العمر 101 عام، التي تتذكر ذهابه إلى الحرب وعدم عودته.الرسالة الثانية، التي كتبها الجندي ويليام هارلي، كانت -ببساطة- مُوجهة إلى مَن يجد الزجاجة.
صرحت آن تيرنر، حفيدة هارلي، للإعلام، بأنها وأحفاد الجندي الأربعة الآخرين «مذهولون للغاية» من الرسالة. وقالت: «يبدو الأمر وكأنه معجزة، ونشعر حقاً بأن جدنا قد مدّ لنا يد العون من القبر».
نعم كأنها يدٌ من خلال الموج مُدّت لغريق...
تذهلني كثيراً مثل هذه الأخبار، مثل كتابات الجنود الباقية في خنادق الحرب العالمية الأولى أو الثانية، وكذا كتابات السجناء على جدران السجون المهجورة... إنها أصوات استطاعت النفاذ من خلال جدران الصمت وكتل التاريخ الصمّاء.
ماذا لو كانت هناك رسائل في قوارير مثل قوارير الساحل الأسترالي لجنودٍ شاركوا في حروب التاريخ الكبرى، مثل صفّين وغزوات المغول والصليبيين وصولاً إلى حروبنا القريبة قبل قرنٍ من الزمان، ماذا سنقرأ فيها؟!
الشاعر المصري الكبير عبد الرحمن الأبنودي، حاول تخيّل ذلك في رسائل البوسطجي المُجنّد «حراجي القط».

