قد بات من المسلم به أن المنطقة منذ 2009 لم تعد الأولوية الاستراتيجية الرئيسة لواشنطن بسبب تراجع الطلب على النفط، والأهم الصعود الرهيب للتحدي الصيني، الذي استلزم إعادة توجيه الأولوية نحو آسيا، وإثر ذلك قد بات من المسلم به أيضا أن مستوى الاشتباك الأمريكي في المنطقة قد انخفض، فلا يزال الحضور العسكري كما هو تقريبا، لكن فعاليته تتضح فقط في حدود المصالح الأمريكية شديدة الحيوية، وعلى رأسها أمن إسرائيل.
بطبيعة الحال، فإن حماية وجود وأمن إسرائيل لا يزالان الباعث الأكبر لاستمرار الحضور الأمريكي، والبعض يعتبره العائق الأكبر «الوحيد» أمام انسحاب تام في منطقة لم تعد فقط تمثل أهمية استراتيجية كبرى، بل أيضا وحل يتم استنزاف واشنطن فيه.
لكن على الرغم من ذلك، هناك من يرى أن المنطقة لا تزال تمثل أهمية استراتيجية كبرى حتى في سياق المواجهة مع الصين، إذ تعد المنطقة عقدة استراتيجية لترسيخ الهيمنة العسكرية في العالم، خاصة البحرية، والهيمنة أيضا على أهم المضايق البحرية في العالم، بل حتى الحضور العسكري حول منابع النفط يعد ركنا أساسيا لفرض الهيمنة والضغط على الصين تحديدا، التي تستورد أكثر من نصف حاجاتها النفطية من المنطقة.
وإثر ذلك، يدور نقاش حاد بين المؤيدين أو المحذرين من الانسحاب التام حول مستوى الحضور والاشتباك، إذ يرى البعض بحتمية تكثيف هذا الحضور والاشتباك، أي عودة القيادة الأمريكية في المنطقة لمنع قوى أخرى من استقطاب دول المنطقة، خاصة الصين التي انخرطت في شراكات استراتيجية مع كل دول المنطقة.
بينما يرتأي البعض الآخر بما يسمى «الحضور الذكي»، بدلا من الحضور السلبي الحالي لواشنطن الذي يرتأي البعض أيضا من الداعمين لاستمرار الحضور بأنه مناسب وكاف. ويستند الحضور الذكي إلى انخراط أو اشتباك أوسع لواشنطن في المنطقة «دبلوماسياً» مع تشجيع الأطراف الفاعلة أو القوية «الحليفة» في المنطقة بمساندة واشنطن دبلوماسياً، بل وإتاحة الفرصة لهم للمبادرة وحدهم للحل وبناء الجهود، مع تكثيف المشاركة الاقتصادية في المجالات الحيوية لواشنطن، وأخيراً، الحفاظ على المستوى العسكري وتعزيز التحالفات العسكرية القديمة، خاصة مع دول الخليج، وتفعيل الخيار العسكري في حالات الضرورة القصوى فقط، بما في ذلك حماية الحلفاء.
لقد كان متوقعا أن الشرق الأوسط سيكون أكثر إهمالا في وجود ترامب ذي التوجهات الخاصة، التي من أهمها الحد من الحضور العسكري الخارجي، والرغبة في تفكيك التحالفات، وهو تحديدا يرى بأن حروب واشنطن السابقة في المنطقة كانت خطأ كارثياً. بيد أن ترامب قد خالف هذه التوقعات في مفاجأة صادمة؛ إذ كانت أول زيارة خارجية له في المنطقة، والتي فيها شدد على استمرار التزام واشنطن بحماية أصدقائها في المنطقة.
والحقيقة أن زيارة ترامب للمنطقة لم تعكس فقط اقتناع ترامب بالحضور الذكي عبر مستشاريه والمؤسسات الداخلية، بل قد قطعت بما لا يدع مجالا للشك أن ترامب ليس «انعزالياً» كما هو شائعاً، بل يتبع سياسة واقعية عملية تخدم المصالح الأمريكية في المقام الأول، وتتسق إلى حد كبير مع الانخراط الذكي.
والسياسة العملية التي ليست جديدة، بل متبعة منذ أوباما، والحضور الذكي، يرتكزان على أولوية الاقتصاد أو الحضور الاقتصادي، وكان ذلك أهم بواعث ترامب من زيارته للمنطقة التي تحصل فيها على استثمارات تقدر بنحو أربعة تريليونات دولار، تفيد الطرفين، واشنطن ودول الخليج المشمولة بالاتفاقات. وهذا يؤكد أن المنطقة لا تزال تشكل أهمية اقتصادية بالغة لواشنطن تستدعي استمرار الحضور.
وتبدت مظاهر الحضور الذكي في قضايا متعددة، لعل أهمها المشاركة الأمريكية في ضرب المفاعلات النووية الإيرانية عبر القنابل الخارقة للتحصينات، إبان الحرب بين إسرائيل وإيران، ولا يخدم هذا الضرب إسرائيل فقط، بل الأصدقاء، حيث يشكل البرنامج النووي تهديدا وجوديا لهم.
ومن المظاهر القوية الدالة أيضا هو الاشتباك الأمريكي في ملف سوريا، الذي ظل مهملا بقوة خلال الإدارات السابقة حتى ولاية ترامب الأولى، إذ تشتبك واشنطن في الملف بمشاركة قوية من السعودية، أهم حليف لها.