: آخر تحديث

كيف يُعيد الإعلام الإيراني تشكيل المظلومية كأداة سياسية؟

6
7
5

في الإعلام لا يُمكن فصل الرسائل عن الأيديولوجيات، ولا يمكن اعتبار الكلمات والصور التي تُبث مجرد أدوات بريئة لتوصيل الحقيقة أو رسم ملامح المشهد المنظور…!

الإعلام الإيراني يُمثل نموذجاً صارخاً لما يمكن تسميته بـ"تجارة الحزن"، حيث تُوظف المظلومية والدموع كسلاحٍ ناعم لتحقيق أهداف سياسية ودينية، وتعبئة الجماهير تحت راية الأيديولوجيا الحاكمة وهذه الظاهرة لا تقتصر على التأثير المحلي داخل إيران، بل تمتد بظلالها لتشكل خطاباً إقليمياً ودولياً يُسهم في إعادة تشكيل العلاقات والقناعات.

الإعلام الإيراني بواجهاته المتعددة من قنوات فضائية مثل "العالم" و"الميادين" وغيرها، إلى المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، يتقن صناعة سردية قائمة على الحزن والدموع حيث يتم تقديم هذه السردية غالباً من خلال إحياء أحداث تاريخية، على رأسها واقعة كربلاء، والتي يتم استدعاؤها بشكل ممنهج لتعزيز فكرة المظلومية التاريخية وهذه المظلومية لا تُعرض كجزء من ماضٍ يجب تجاوزه، بل كجرح دائم يتم استثماره لتبرير الحاضر وتحقيق الهيمنة الفكرية والسياسية.

على المستوى الإقليمي، يُمكن رؤية هذه الآلية بشكل جلي في الخطاب الموجه نحو دول مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان. في العراق، تُسخر إيران سردية الحزن كجزء من استراتيجيتها لكسب ولاء المكونات الشيعية وارسال رسائل للمكونات الأخرى حيث يتم تصوير إيران كحامية للمستضعفين، وتُستخدم مراسم العزاء والمآتم وسيلةً لتعبئة العواطف وإعادة تشكيل الهوية الثقافية بما يتناسب مع الأجندة الإيرانية حيث يتم إنفاق ملايين الدولارات سنوياً على تمويل المؤسسات الثقافية والدينية التي تنظم هذه الفعاليات، ما يُظهر بوضوح أن تجارة الحزن ليست مجرد تعبير ثقافي، بل أداة سياسية مُستثمرة بعناية.

أما في سوريا، فقد استُخدمت سردية المظلومية بشكل مغاير لأنها بمثابة تبرير للتدخل العسكري الإيراني بوصفه دفاعاً عن المقدَّسات، وتصوير القوات الإيرانية والميليشيات الموالية لها على أنها حماة للعتبات الدينية مثل مقام السيدة زينب، وهنا يتم تسليط الضوء على المعاناة والتضحيات لإثارة التعاطف مع هذه القوات، بينما يتم تهميش مأساة المدنيين الذين وقعوا ضحايا لهذه التدخلات ونتيجة دعمهم لطاغية الشام الهارب.

في اليمن، نجد نفس النمط مُعاد تشكيله. تُسخر إيران الإعلام للترويج للحوثيين كضحايا وهم الجناة، وتستخدم صور الأطفال الجائعين والأمهات الباكيات للتلاعب بالعواطف الدولية. بحسب تقرير للأمم المتحدة عام 2023، اليمن يشهد واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم، حيث يحتاج أكثر من 21 مليون شخص إلى المساعدات الإنسانية. ومع ذلك، يتم استغلال هذه الأرقام المروعة بشكل مزدوج؛ للتأثير على الرأي العام العالمي من جهة، ولتعزيز المظلومية المرتبطة بمحور إيران الإقليمي من جهة أخرى ورغم أن ما وصل له اليمن هو بسبب الانقلاب على الشرعية واختطاف الدولة من قبل قوة ظلامية متخلفة إلا ان الإعلام الإيراني يقفز فوق كل هذه الحقائق باتجاه مظلومية كاذبة..! 

في لبنان، يُعد الإعلام أحد أبرز أدوات النفوذ الإيراني، حيث يتم الترويج لسردية المظلومية عبر قنوات مثل "المنار" وغيرها بالإضافة لصحف ومواقع إخبارية، والتي تُكرس خطاباً يعتمد على استحضار معاناة الماضي لتعزيز الولاءات السياسية. يتم استثمار الأحداث الإقليمية والمحلية، مثل الصراع مع إسرائيل، لإبراز إيران كحامية للمقاومة والمستضعفين، يُنفق النظام الإيراني ملايين الدولارات سنوياً لدعم وسائل إعلام لبنانية مرتبطة به، مما يضمن استمرار هذا الخطاب وتوجيهه لخدمة أجنداته الإقليمية. في المقابل، يتأثر المجتمع اللبناني بهذا النمط الإعلامي الذي يُعزز الانقسام الداخلي، ويُغذي توترات سياسية واجتماعية تجعل من المظلومية أداةً لإحكام السيطرة بدلاً من البحث عن حلول وطنية شاملة.

إقرأ أيضاً: سبتة ومليلية… احتلال التاريخ

ما يجعل هذه التجارة الإعلامية للحزن فعّالة للغاية هو قدرتها على مزج الرموز الدينية مع الأحداث السياسية. الخطاب لا يكتفي باستحضار المعاناة، بل يُضفي عليها بُعداً قدرياً مقدساً ليتحول الحزن إلى أيديولوجيا قادرة على إعادة تعريف الصراع السياسي بأنه امتداد لمعركة بين الحق والباطل. هذه الثنائية، رغم سطحيتها، تُلهم ملايين الأشخاص وتدفعهم إلى الانخراط في دعم سياسات إيران داخلياً وخارجياً.

ولكنَّ هذه التجارة تُسهم في خلق بيئة من السلبية والجمود الفكري، حيث يتم تحويل الأزمات إلى روايات جدلية دائمة بدلاً من العمل على حلّها. في الداخل الإيراني، يتجلى هذا الأمر بوضوح في تعامل النظام مع الاحتجاجات الشعبية. على سبيل المثال، خلال الاحتجاجات الواسعة التي اندلعت عام 2022 بعد وفاة الشابة مهسا أميني، استخدم الإعلام الإيراني نفس الأدوات، حيث حاول تحويل الانتباه من المطالب الحقيقية للمتظاهرين إلى تصويرهم كأدوات في مؤامرة خارجية تهدف إلى استهداف البلاد.

إقرأ أيضاً: جزيرة سامناو: حيث تبدأ الحياة من جديد

إنَّ الأرقام تكشف عن مدى احترافية الإعلام الإيراني في صناعة هذه السرديات. تُظهر دراسة أجراها مركز الأبحاث في جامعة أكسفورد عام 2021 أن إيران تُخصص أكثر من 150 مليون دولار سنوياً لدعم وسائل إعلام إقليمية ودولية تعمل على الترويج لسرديتها. هذه الأرقام تؤكد أن الاستثمار في الحزن ليس عشوائياً، بل مُخطط له بعناية.

ختاما يمكن القول إن تجارة الحزن في الإعلام الإيراني ليست مجرد انعكاس لثقافة دينية أو اجتماعية، بل هي أداة سياسية قوية. هذه الآلية تُعيد تشكيل العواطف لتتحول إلى قوة دفع تُبرر التدخلات الإقليمية، وتُعزز السيطرة الداخلية. ولكن، يبقى السؤال الفلسفي: هل يمكن للحزن أن يكون وسيلة دائمة للتحكم في الجماهير، أم أن هناك نقطة يُصبح عندها الوعي أقوى من العاطفة؟ الإجابة على هذا السؤال قد تحدد مستقبل هذه السرديات في عصر التحولات الإعلامية المتسارعة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف