لا يثق الكرد في سوريا بأيّ خطاب مهادنة بعد قرن ونيف (1920 - 2025) من الخديعة التي رافقت تأسيس الدولة السورية وحتى يومنا هذا. منذ اللحظة التي أُعلن فيها أن سوريا ستكون "بلداً لكل السوريين"، تم تجاهل الهوية الكردية بصورة ممنهجة، ولم يُسمح للكرد بالمشاركة الحقيقية إلا إذا تنكروا لهويتهم القومية وتقمصوا هوية قومية عربية، كما الحال في تركيا. وحتى من التزم بهذا الشرط - في سوريا - فهو لم يُستثنَ من الإقصاء والملاحقة، مهما بلغ مناصب عليا كالرياسة أو قيادة الحكومة، حيث ظلت الهوية الكردية عامل إقصاء دائم.
ثقة الكرد بين الأمل والخذلان
حقيقة، إنَّ الكرد هم الأكثر تصديقاً للآخر، لكنهم في الوقت ذاته الأكثر اصطداماً به. تجلت هذه الحقيقة في الأنظمة السابقة التي استهدفت الكرد تاريخياً بممارسات قمعية ممنهجة طمست حقوقهم. وكذلك في بعض ساسة المعارضة الذين أعلنوا دعمهم للكرد نظرياً، بينما تناقضت أفعالهم مع أقوالهم. كما أنَّ ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي أسهموا في تأجيج العداوة بين الكرد وشركائهم من خلال خطابات تحريضية، إما علنية أو مغلفة بالمراوغة.
المعارضة بين الوعود والخذلان
لقد انقسمت المعارضة السورية إلى واجهتين بارزتين: المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني السوري وكانت لي خلال الفترة ما بين 2011 و2012، تجربة شخصية امتدت لعام كامل في المجلس وأمانته العامة. تم إنجاز بعض الخطوات المهمة، من قبل تعاون فريقنا، آنذاك، مثل تثبيت حق الكرد دستورياً واقتراح تسمية الدولة المستقبلية بـ"الجمهورية السورية". لكنَّ هذه المكتسبات، التي جاءت نتيجة حوار وجهد كبير، كانت قصيرة العمر. سرعان ما تبخرت بفعل الضغوط الخارجية والتلاعب السياسي، وعلى العكس من الحالة العراقية، التي احترمت المعارضة التزاماتها التي وُقعت في مرحلة ما قبل سقوط نظام صدام حسين، لم تلتزم المعارضة السورية بوعودها للكرد، مما كشف عن ازدواجية واضحة في التعامل مع الحقوق الكردية.
خطاب ناشطي وسائل التواصل: بين التزييف والتحريض
يتخذ بعض ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في تعزيز الخلافات، ويتبعون نهجين رئيسيين: الأول معادٍ صريح يرفض وجود الكرد بشكل علني ويدعو إلى محوهم، والثاني مراوغ يدعي قبول الكرد كمواطنين، لكنه ينكر عليهم حقوقهم القومية والثقافية. النموذج الثاني أكثر خطورة؛ لأنه يعتمد على خطاب موجه بحرفية، يظهر الود ظاهرياً لكنه يروج لإقصاء الكرد عملياً. يستخدم هؤلاء الناشطون خطاباً مزدوجاً، يدعون من خلاله إلى "العيش المشترك" بينما يعملون على محو الهوية الكردية بطرق ملتوية. يدعون أنهم "ضامنون" لحقوق الكرد، بينما يسعون عملياً إلى تقييد هذه الحقوق، ناهيك عن أنَّ بعض هؤلاء مصاب بعقدة تورم الذات، إذ يتوهمون أنهم من أسقطوا بشار الأسد وأنَّ قيادة الإدارة الجديدة في دمشق إنَّما هي طوع أيديهم، وأنَّ الكرد في انتظار أيّ بريق تفاؤل يظهر من قبلهم، من دون أن يدركوا أن قضية - الشعب الكردي في سوريا - أكبر مما يرون، ويريدون، ويضمرون من مواقف مدمرة لكل الروابط الوطنية.
من هنا، نجد تجلي واقع عدم الإنصاف في موقف هذا النموذج من القوى الكردية المسلحة التي تضم في صفوفها مقاتلين من مختلف المكونات السورية. فبالرغم من وجود انتهاكات لهذه القوى – التي ندينها إذا مسَّت المدنيين – إلا أن لها إيجابياتها التي لا يمكن إنكارها: مقاومة داعش التي يحاول هؤلاء تقزيمها، ومنهم من كان ذا خطاب موارب متساوق مع داعش، بل ينهج عملياً وفق رؤيته من الآخر، غير المذعن، لاسيما الكردي. ومع ذلك، يتم تضخيم هذه الانتهاكات وإغفال انتهاكات الفصائل الأخرى، الأشد فظاعة، بما فيها تلك المدعومة من قوى خارجية كتركيا.
إقرأ أيضاً: في توصيف القيادة المطلوبة: رؤية في ضوء التاريخ والواقع
إذ إن جميعنا يعلم أن تحتل تركيا اليوم أجزاء واسعة من الأراضي السورية، بدءاً من كيليكيا واللواء، وصولاً إلى عفرين، وسري كانيي، وتل أبيض، دون أن يُذكر ذلك في خطابات هذا النموذج التحريضي. بدلاً من ذلك، فإنه يتم التركيز على تشويه صورة القوى الكردية التي تقاتل دفاعاً عن حقوق الكرد ووجودهم.
هذا الخطاب لا يكتفي بتسويغ الاحتلال التركي، بل يذهب إلى حد التشكيك بوجود الكرد وحقهم في أرضهم، محاولاً تقويض كل جهد كردي للدفاع عن هويتهم القومية. إذ يتمثل هذا السلوك في مهاجمة كل من ينادي بحقوق الكرد، وتشويه صورة القوى التي تحاول حماية مناطقهم من الاحتلال والفصائل الإرهابية، والاستباق إلى مطالبة رمي سلاح الطرف- السوري- في المناطق الكردية سلاحه، قبل توافرشروط بناء الدولة والشراكة، والتأليب عليهم، بما يدعو إلى خلق إبادة بحق الكرد وغيرالكرد في-قسد- إذ إنه في الحرب، ليس من طرف لم يرتكب الانتهاكات، وتعد ازدواجية التعامل واضحة، بأنها تأتي في إطار ارتكاب الجينوسايد بحق الكرد.
إقرأ أيضاً: نحو علم يمثل السوريين كلهم
إنَّ كل خطاب يدعو إلى تأزيم العلاقة بين الكرد والعرب وغيرهم من المكونات الأخرى في سوريا مرفوض ومدان، بغض النظر عن مصدره، سواء كان كردياً أم عربياً أم كان ينتمي لغيرالطرفين، لأن المرحلة القادمة تتطلب منا جميعاً التحلي بالحكمة ونبذ أي دعوات للاقتتال الداخلي بين شركاء الوطن السوري. كما أن بناء مستقبل مشترك يستدعي الوقوف في وجه خطابات التحريض، والعمل على ترسيخ أسس العدالة والمساواة.
أجل. إن خطاب المهادنة الحقيقي لا يقوم على المراوغة أو التضليل، بل على الاعتراف الكامل بحقوق الكرد وخصوصيتهم القومية والثقافية. فالكرد ليسوا بحاجة إلى وعود خادعة أو كلمات معسولة، بل إلى شراكة حقيقية تُبنى على الاحترام المتبادل والعدالة. ومستقبل سوريا، إن كان مشرقاً، فلا بد أن يكون قائماً على أسس التعددية والاعتراف بجميع السوريين على اختلاف مللهم ونحلهم، من دون استثناء.