إحصاء جديد يظهر أن 68 في المائة من الفرنسيين على استعداد لمقاطعة الشركات الأميركية. هذه النسبة الكاسحة، ستراها في كل الدول التي شملتها دراسة أخرى قامت بها «إدلمان تراست» التي تتعاون مع كبريات المؤسسات العالمية، لتزويدها بالإرشادات التسويقية، وشملت الصين والبرازيل، حيث عبر 75 في المائة عن ربطهم بين ما يشترون والمواقف السياسية للشركات المنتجة.
وسواء مضى الرئيس الأميركي دونالد ترمب في تعريفاته الجمركية المربكة أو تراجع عنها، فقد أدخل الجميع في حالة استفزاز قد تستمر تردداتها طويلاً.
لم تعد التجارة حيّزاً حيادياً بريئاً. وإن كانت غالبية الأميركيين تتمنى ذلك، فإن دراسة أخرى لمؤشر «إدلمان» تبيّن أن العلامات التجارية لم يعد بمقدورها أن تبقى صامتة، حيال القضايا المجتمعية، بحسب غالبية المستطلعين، لأن نصفهم اعتبروا أن الصمت يعني أن ثمة ما هو مريب يخفيه صاحب العلامة، وهذا أسوأ.
ووسط الفوضى الاقتصادية، تجتاح وسائل التواصل حملات مقاطعة لأميركا، تشمل أوروبا بشكل خاص وكندا والمكسيك والصين، وحتى أميركا نفسها.
كانت المقاطعة عربية، فصارت عالمية، مدعومة بجيل «زد» الذي يرى أن شراء منتج ما، هو تعبير عن الرأي. لذا فإن الاختيار يجب ألّا يكون اعتباطياً.
أمر بدهي، بعد أن تم تحويل الكائن البشري إلى مجرد، قيمته تساوي ما بمقدوره أن ينفقه. وهذا سلاح ذو حدين، لأن الشراة عرفوا نقطة قوتهم وشهروا سكاكينهم في وجه المستثمرين.
المفاجئ أن نرى الكنديين من بين الأكثر ثباتاً وعناداً والأسرع مبادرة إلى تغيير أنماط سلوكهم، وكذلك مواطنين مدللين كالسويديين. وفي النرويج توقف أحد المواني عن تزويد سفن البحرية الأميركية بالوقود، طالباً منها البحث عن مصادر أخرى بعد ساعات من واقعة ترمب - زيلينسكي، الذي قال البيان النرويجي إن القرار اتخذ بعد «أكبر عرض سخيف على الإطلاق قدمه الرئيس الأميركي الحالي ونائبه على الهواء مباشرة».
في فرنسا تعلن غالبية عن رغبتها في المقاطعة، رفضاً لإهانات الأخ الأميركي الأكبر، لكنهم في سلوكهم أشبه بالعرب، الذين يتناقشون، ويطيلون الجدل حول الجدوى أو حتى إمكانية الاستغناء عن «غوغل» و«أمازون» و«أبل». ولا يزال النقاش مستمراً حول إذا ما كانت «كوكا كولا» و«ماكدونالدز»، وغيرهما من المؤسسات التي تستخدم المنتجات المحلية، أميركية أم أوروبية؟
الأهم، أن هذه الموجة المعدية، فتحت الباب على أسئلة وجودية، مثل هل نحن مستعمرون ومسلوبون إلى حد أننا مرتهنون لأميركا ولا نستطيع الاستغناء عنها؟ ماذا فعلت بنا، من دون أن نشعر؟ وهناك من يستعيد تاريخ بلاده منذ الحرب العالمية الثانية التي بقي من وقتها حبيس الإرادة الأميركية.
إن لم تكن لحظة مقاطعة جدية، فهي مفصل يقظة، ومحاسبة للذات، ومراجعة الأخطاء ومحاولة إصلاحها.
حالة تعيد الأمم إلى مقولة جبران خليل جبران الشهيرة: «ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع». بالتالي فالدعوة في الغرب الذي تخلت عنه أميركا هي للعودة إلى الأرض والمصانع، وإنتاج الاحتياجات العسكرية، لتأمين الحماية الذاتية.
لم يمر في مخيلة أحد أن أوروبا يمكن أن تتحمس لمقاطعة شقيقتها وحاميتها، لكن الصدمة أكبر حين ترى أميركا تقاطع نفسها، مستخدمة السلاح ذاته لأسباب أخرى.
«تسلا» على رأس القائمة؛ لأن صاحبها الملياردير الشهير إيلون ماسك، أكثر مخلوقات الكوكب انغماساً في وحول السياسة. بالنتيجة يخسر المليارات ويهوي سهم شركته إلى النصف في وقت قياسي. البعض يعزو ذلك إلى مشاكل تقنية وخيبة أمل عند المستهلكين، وآخرون يفضلون عدّه انتصاراً للمقاطعة.
الصدمة كبيرة إلى حدّ جعلت ترمب، يتجاوز كل الحواجز، بصفته رئيساً لكل الأميركيين، ويستعرض لحظة شرائه سيارة تسلا حمراء برّاقة، مشجعاً على اقتناء هذه الصناعة العظيمة لرجل يسدي خدمات جليلة لأميركا. أيقونة العربات الكهربائية، التي انخفض شراؤها 45 في المائة في أوروبا، تقاوم هجمات الغاضبين في أميركا أيضاً، فمن إحراق لشاحنات «تسلا» إلى تدمير لمحطات التشريج، ومهاجمة مراكز وحتى إطلاق نار.
مسكين ماسك، لأن أسهل ما يمكن أن تستبدله هو السيارة، ولصعوبة هجران منصة «إكس»، كان الأسهل مهاجمتها سيبرانياً.
المقاطعة في أميركا، سجلت نتائج مشجعة ضد ماركة المشروب «بد لايت» قبل عامين، حيث انخفض ربع مشترياتها، بسبب تعاونها مع مؤثرة متحولة جنسياً في حملة إعلانية. وهو ما يدفع اليوم، إلى تبني النهج نفسه، مع شركات خضعت لطلب ترمب الرافض للاعتراف بجنس ثالث. هكذا استهدفت شركة «تارغت» التي انخفض مبيعها في يوم واحد 11 في المائة. وعلى لائحة المقَاطَعين شركات أخرى عديدة بينها «ميتا» و«ماكدونالدز» و«أمازون»، لأنها ألغت برامجها المتعلقة بـ«التنوع والمساواة والشمول»، بناء على تعليمات الرئيس.
بين مطرقة ترمب، وسندان المستهلكين تُحشر الشركات الأميركية الكبرى، وهذا له ما بعده، في عالم التجارة التي أريد لها أن تكون حرّة، ومنزّهة عن كل لوثة، إلا حبّ المال والربح الوفير. لكن هذه اللعبة اللذيذة انتهت. فلكل منتج معنى، ولكل شركة سياسة تحاسب عليها.