كانت تهدف إيران إلى شرعنة ميليشياتها في لبنان وسوريا والعراق واليمن التي شكلتها ليس نتيجة قوتها، وإنما نتيجة ظروف دولية وإقليمية استثمرتها طهران، بدءًا من احتلال الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش العراق، ثم استثمار ثورات الربيع العربي التي ضربت المنطقة عام 2011. ولم تتوقع إيران أن هذا النفوذ المصطنع سيفشل على يد السعودية، كما فشلت ثورات ربيع براغ في 1968 وسُحق ربيع براغ تحت أقدام جيوش الدول الأعضاء في حلف وارسو.
لم تكن السعودية فقط الطرف المنزعج من الاتفاق النووي (5+1) في 2015 مقابل غض الطرف عن النفوذ الإقليمي الإيراني، بل إسرائيل أيضاً، التي كانت تراقب النووي الإيراني منذ 2012 عندما طلب بنيامين نتنياهو من الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما ضرب المفاعل النووي الإيراني. وقد سبق لإسرائيل في 23 حزيران (يونيو) 2021 أن تقدمت للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بطلب شن هجمات على موقع تسا في كرج، وفق صحيفة نيويورك تايمز، باعتبار أن تسا من ضمن الأهداف المدرجة في قائمة إسرائيل لشن هجوم على برنامج إيران النووي، ذلك لأن تسا لها دور في تطوير البرنامج النووي من خلال تصميم وإنتاج جيل جديد من أجهزة الطرد المركزي التي تقوم بتخصيب اليورانيوم بسرعة أعلى بكثير. وقد استبدل ترامب الهجوم بفرض عقوبات مشددة على إيران.
ضربت أميركا الحوثيين بغارات جوية تدميرية لأول مرة، استهدفت خمس منشآت لتخزين الأسلحة تحت الأرض باستخدام قاذفات الشبح B2. كانت ضربة جوية نوعية نفذتها الطائرات الأميركية لاختراق الأرض وتدمير تلك المخازن. كانت رسالة لإيران أن الولايات المتحدة، إذا أرادت أن تقضي على النووي الإيراني، فهو بين يديها، وتعرف ذلك إسرائيل. لذلك على إيران التوقف عن تصعيد الصراع في المنطقة، وأن تتنازل عن ميليشياتها.
لم تقبل الولايات المتحدة ودول المنطقة احتواء توسع ميليشيات إيران، وأنه لا بد من تدميرها من أجل رسم خارطة جديدة للمنطقة خالية من التهديدات الإيرانية. وفي 27 أيلول (سبتمبر)، أعلن نتنياهو من على منبر الأمم المتحدة أن بلاده تود أن تكون النقطة المحورية في الممر الاقتصادي بين الهند وأوروبا، والذي يمر بدول الخليج تحت الرعاية السعودية، ما جعل الولايات المتحدة تطلق العنان لإسرائيل لضرب أذرع إيران في المنطقة، خصوصًا بعدما رعت بكين تهدئة بين إيران والسعودية. ولن تشارك السعودية في القضاء على ميليشيات إيران، وقد سبق أن منعت الولايات المتحدة تحرير التحالف بقيادة السعودية للحديدة في 2018، وتحرير صنعاء في 2019.
إقرأ أيضاً: تأثير توترات الشرق الأوسط على الانتخابات الأميركية
لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، وهناك قرار إقليمي ودولي قد اتخذ. أرادت الولايات المتحدة أن ترد إسرائيل على ضربات إيران في أول تشرين الأول (أكتوبر) 2024 وفق الأجندة الأميركية. أي أنها حرب تمارسها إسرائيل وتديرها أميركا، تتجاوز الكلاسيكية القديمة القائلة إن اللوبي الإسرائيلي يتحكم بأميركا، لكن الصحيح أن أميركا في منظومتها لصناعة القرار متسعة ومنفتحة على الخارج بما فيها لوبيات، وهذا لا يعني أن إسرائيل تفرض أجندتها على الولايات المتحدة.
لم تنجح إسرائيل في جر أميركا لحرب إقليمية موسعة لضرب المفاعلات النووية الإيرانية، لأنها لا تستطيع بمفردها. وإرجاء إسرائيل الضربة بعد التسريبات هو جزء من العمل السياسي لشراء بعض الوقت، خصوصًا وأن التسريبات لم تتحدث عن الأهداف بل عن جوانب أخرى. هناك حسابات استراتيجية للولايات المتحدة؛ فهي لا ترى أن إيران عدو وجودي كما تراه إسرائيل، وليس من أجندة أميركا إسقاط النظام الإيراني كما تطالب إسرائيل، لأنه يصب في صالح الصراع الأكبر مع الصين وروسيا. فإسرائيل تتخذ من ضرب الأطراف ثم رأس الأفعى، لكن أميركا تراهن على عودة إيران إلى الحضن الغربي. فهمت السعودية هذه الاستراتيجية وأصبحت تسابق الولايات المتحدة في التعامل بها، وهذا لا يعني قبول السعودية ببقاء الميليشيات، بل تطالب السعودية بتخلي إيران عن الميليشيات. وقد سبق أن طالب وزير خارجية إيران جواد ظريف بإقامة علاقات طبيعية مع السعودية عندما تحدث مع وزير خارجية السعودية الأمير سعود الفيصل رحمه الله، فرد عليه بأن تخرج إيران من المنطقة العربية. وهناك مقولة لتيتو رئيس يوغسلافيا وهو صربي، عندما قال: "إذا أردنا الأمن والاستقرار، علينا إضعاف الصرب وتقوية يوغسلافيا". وهذا ما ينبغي أن يحدث في لبنان بإضعاف حزب الله وتقوية لبنان وكذلك في اليمن والعراق وسوريا.
إقرأ أيضاً: السعودية ومصر ركيزة الاستقرار العربي
أعدت إيران حربًا للقرن الماضي، بينما حرب القرن الواحد والعشرين تعتمد على الذكاء الاصطناعي والحرب السيبرانية، وهي لا تمتلك سياسة دفاعية مناسبة مثل التي تمتلكها إسرائيل. رغم ذلك هناك تنسيق أميركي سعودي في إدارة الصراع في المنطقة وتقييده حتى لا يتحول إلى حرب إقليمية ودولية. ويرى الطرفان أنَّ ضربات المنشآت النووية قد تتسبب في كارثة بيئية، وضرب منشآت اقتصادية يضر بالانتخابات الجارية في أميركا، خاصة بعد إضعاف حزب الله كقاعدة متقدمة لإيران، فأصبحت إيران مكشوفة أمام الضربات الإسرائيلية.
بالفعل التزمت إسرائيل بضرب المنشآت العسكرية فقط دون ضرب المنشآت النووية والاقتصادية، وتركزت ضرباتها في محافظات طهران وخوزستان وإيلام، بثلاث موجات من الضربات الجوية شملت ضرب بطاريات الصواريخ أرض-جو، وأبرزها S-300. وشملت الضربات منشآت لصنع الصواريخ في إيران، وبشكل خاص مواقع تحتوي على خلاطات الوقود الصاروخي، مما يعيق بشكل كبير قدرة إيران على إنتاج الصواريخ. ولم تستهدف الضربات أي مركز عسكري للحرس الثوري، ما يعني أن هناك تسويات وتنازلات من الحرس الثوري أجريت من أجل التخلي عن الميليشيات في المنطقة جميعها مقابل عدم استهدافه.