حسن اليمني
ليست الأمم والدول والشعوب والمجتمعات إلا كينونة فرد تتسع وتنتشر فتصبح عنوانا عاما يحتوي الكل.
الأخلاق جمع خلق والخلق (خَلْقُ وخُلُقْ)، ولا شك أن الخَلْق يفهم كإنشاء أو صُنع وهو أمر خارج إرادة المخلوق، بينما الخُلُق بضم الخاء واللام تعني الطبيعة أو العنوان للشيء الذي يُفْهم بطبيعته، وبالمعنى اللغوي، وكما جاء في الدرر السنّية كما يلي (الأخلاق جمع خلق، والخُلُق -بضمِّ اللام وسكونها- هو الدِّين والطبع والسجية والمروءة، وحقيقته أن صورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها وقال الرَّاغب: (والخَلْقُ والخُلْقُ في الأصل واحد... لكن خص الخَلْق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة) أي أنها العنوان الذي ينعكس على الآخر بالفهم عن ذاك الشيء، أما اصطلاحاً فقد عرَّف الجرجاني الخلق بأنَّه: (عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ورويَّة، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقًا سيئًا) وعرفه ابن مسكويه بقوله: (الخلق: حال للنفس، داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا رويَّة، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعيًّا من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب، ويهيج من أقل سبب، وكالإنسان الذي يجبن من أيسر شيء، أو كالذي يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه، أو يرتاع من خبر يسمعه، وكالذي يضحك ضحكًا مفرطًا من أدنى شيء يعجبه، وكالذي يغتمُّ ويحزن من أيسر شيء يناله. ومنها ما يكون مستفادًا بالعادة والتدرب، وربما كان مبدؤه بالرويَّة والفكر، ثم يستمر أولًا فأولًا، حتى يصير ملكة وخلقًا).
ويقول الإمام الغزالي (الخَلق والخُلق عبارتان مستعملتان معاً، يقال: فلان حسن الخَلق والخُلق أي حسن الظاهر والباطن فيراد بالخَلق الصورة الظاهرة ويراد بالخُلق الصورة الباطنة، وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك بالبصر ومن روح ونفس مدركة بالبصيرة).
والواقع ان الخُلُق هو الطبيعة التي نفهمها عن الآخر من خلال سلوكه وتصرفاته، هذا عن الفرد فإن جمعنا الأفراد إلى جماعة تتشابه في خُلقها تصبح أخلاق مجتمع أو شعب أو أمة، وهي إذن صفات مزاجية وانفعالية معينة مثل الحلم والأناة والحياء والحمق والغضب وسرعة الانفعال، وما شابهها ونجد أن جانباً منها فطري موروث في الإنسان وما يقوم به تلقائياً دون تكلف، وجانباً منها مكتسب يتمثل في التحكم والسيطرة على الصفة المزاجية قدر المستطاع بمعنى أن الخلق بالتخلق والطبع بالتطبع، الغاية من كل هذا هو أن الأخلاق هي عنوان أي أمة أو شعب أو مجتمع وإلى أن نصل إلى الفرد، وقد يصح أن نختصره في مقولة (أنت خُلقك) كيف ما كانت تكون أنت، وبطبيعة الحال يمكن للأفراد أن يمثلوا أو يتلبسوا خلقا متبدلا يتناسب مع الموقف لغاية أو غرض، ولكن بشكل مؤقت بينما لا يستطيع مجتمع أو شعب أو أمة تلبّس أو تمثّل خلقا لغاية أو غرض مؤقت.
الفطري والموروث خلق طبيعي تلقائي في النفس تحكم العقل والقلب وتترجم بسلوك وتصرف مألوف ومجانس ومنسجم مع ما حوله، في حين أن الخُلق المكتسب من خلال التعامل مع الآخرين أو القراءة أو المشاهدة أو التقليد أو الاتباع في الغالب يظهر مستغربا وغير مألوف بحكم خروجه على الخُلق الفطري الموروث، وما يعني أن عنوان أي أمة هو أخلاقها فيما بينها، والذي على ضوئه يمكن القول عنها أمة متحضرة متى كانت أخلاقها راقية وعادلة وأقرب إلى الفطرة الخلقية الإنسانية والعكس كذلك كلما كانت الأمة في أخلاقها منفلتة متحررة من قيود جمعها بالطبائع الفطرية والمكتسبة.
وحري بنا أن نفهم أن الأخلاق قيم ومبادئ مشتركة بين الناس في هذا المجتمع أو هذه الأمة، والأمر كذلك فإن القيم والمبادئ هي آلة أو أداة الحركة للأخلاق وحين تنهار القيم والمبادئ تنهار الأخلاق بشكل تلقائي وطبيعي، ثم إن القيم والمبادئ يحفظها ويصقلها ويلينها ويبعثرها كينونة الانسان ذاته أو كينونة الناس المشتركة أو الغالبة، والكينونة في النفس البشرية قسمان متعاكسان وضدان هما الأخذ أو العطاء، ومن الطبيعي المألوف أن الإنسان بين أخذ وعطاء لكن بحكم أنهما متعاكسان ومتضادان فلا يتوازنان بقيمة متساوية إلا في المثالية والتي لا تظهر أبداً في الإنسان حتى لو تمثل نسبة كبيرة منها، وقيمة الأخذ والعطاء في الإنسان تأتي لإشباع ذاته وملذاته، هناك من يستشعر السعادة في الامتلاك والاحتواء، وهناك من يستشعر ذلك في التضحية والفداء، وبين الامتلاك والإيثار وبين الاستحواذ والتضحية أو الفداء مثل ما بين المشرق والمغرب، ومن الطبيعي والمنطقي ألا يوجد أحد في أقصى اليمين أو أقصى اليسار، ولكن إبرة المؤشر تميل على قدر الفعل ناحية اليمين أو اليسار لترجح كفّة الأخلاق النسبية بمعنى ليس في الناس ملاك ولا شيطان ولكن فيهم من هذا وذاك وبين بين.
هناك أيضاً العلم والجهل، وكثيرون يعتقدون أن العلم أقوى وأقدر على أخذ المجتمع نحو الخلق الجيد أكثر من قدرة وقوة الجهل لكن ذلك لا يبدو في اعتقادي صحيحا بشكل تام، بل إن الجهل الذي يقصد به جهل العلم بالشيء في اعتقادي أكثر قدرة وقوة في تجويد أخلاق المجتمع، من حيث إن الاحتياج للآخرين والزهد في الأشياء كلاهما يغذيان كينونة العطاء في الإنسان أكثر من أنانية التملك والاستحواذ، كحال الفقر والغنى فالفقر المتوارث يخلق حالة الزهد والقناعة بينما يخلق الغنى حب الذات والأنانية، والناس ليسوا في الأغلب أغنياء وحتى الغنى بين الناس متفاوت، وأيضاً ليسوا في الأغلب فقراء وحتى الفقر بين الناس متفاوت، إلا أن الغنى بنسبته الطبيعية المعقولة هو الأعم بين الناس، ومن الطبيعي وجود الفقر لكنه الحال التي تكون محل عناية واهتمام من الأغلب الأعم من الناس، لهذا يظهر للسطح وبشكل واضح وجلي أثر الأنانية وحب التملك والاستحواذ أكثر من ظهور العطاء والتضحية بين الناس أفراد وبين الأمم جماعات، وإذا كان يُحسب أن الغنى قوة والفقر ضعف، وإذا كان الغنى سترا وأمانا أو هكذا يُرى والفقر ذلا ومهانة أو هكذا يُرى إذاً الناس في أكثريتهم وأغلبيتهم تسعى وتتجه لحماية ذاتها باتجاه الغنى والاكتفاء بما في ذلك الفقراء بطريق التقليد والتبعية والسُخرة والابتعاد عن محل أو نزل أو مكانة الذل والمهانة كأمر طبيعي، هذا يخلق سعارا نحو تأمين الإنسان لنفسه فيضطر لاستخدام القيم والمبادئ ذاتها ليُشرع لنفسه أولاً وقبل أي شيء آخر الحق والصواب بقاعدة الغاية تبرر الوسيلة في الهروب من الأسفل إلى أعلى ولو شكلياً على حساب داخله ومخزون هذا الداخل، أي تلك القيم والمبادئ الجمعية، وفرد من هنا وفرد هنا وهناك حتى تجد نسبة كبيرة من المجتمع خرجت بظاهر مختلف عن الباطن بما يسمى التمثل أو قل النفاق أو ما يسمى في الغرب بالـ (البرغماتية) حينها يصبح الأمر أسلوبا سلوكيا يمارسه الأفراد وسياسات على مستوى الجماعة أو الشعب أو الدولة أو الأمة.
حين يصبح النهج الذكي والأمثل هو في الركض نحو التملك والاستحواذ فلابد أن تكون الغاية هي إشباع اللذة باعتبار أن هذا النهج قفز على القيم والمبادئ واتخاذ البرغماتية والانتهازية نهج لتحقيق الغايات والأهداف، أدرك أن هناك من يدير حركة هذا النهج ويشيعه بين الأمم ليحل محل القيم والمبادئ أو بمعنى أعم وأصدق الاتجاه نحو المادية والمحسوس على حساب الفطرة الإنسانية الطبيعية أو لنقل طبيعة الانسان الفطرية العذراء، وللحق هو ليس عملا مخططا أو مؤامرة على إنسانية الإنسان بقدر ماهي طبيعة عصر هذا الانسان المؤثرة بآلياتها في العلوم والتقنية والاقتصاد والإعلام والإنتاج والاختراع وتقريباً كل شيء، طبيعة عصر تلزم الإنسان بمواكبته والانسجام معه وتشكيل الخُلق بما يتناسق مع هذه المعطيات.
إن أخطر ما في القوة والغنى - على المستوى الفردي والجمعي - أنها مثل النار المضيئة المشعة بالدفء والحياة يدور حولها فراش متناثر بضعف الهمّة الأصيلة الدافعة فتحترق بالتقليد والتبعية، وما يصح تمثيله على الفرد يصح تمثيله أيضاً على المجتمعات والدول والأمم، إن أصعب شيء أن تجد نفسك تكره نفسك وتلحق خلف الآخر لتتقمص ذاته اعتقاداً أنك ستصبح هو، وأنت في قرار نفسك تدرك أن ذلك محال، ولكن تخدع نفسك بطريقة - إغمائية تعتمد الغاية تبرر الوسيلة - بأنك ستحقق النجاح ثم تعود لنفسك لتكون أنت بأصالتك الكامنة لتعيد تصحيح الآخر، وليس الأمر أكثر من مخادعة للنفس وقفزا على طبيعة الخُلق والأخلاق الأصيلة في النفس أو بمعنى آخر هروبا من الذات لتحقيق الذات، وتلك هي أعمق معاني الضعف الأخلاقي والاستلاب الذهني.