: آخر تحديث

"راجعين يا هوى!"

9
8
6

كنت قد فقدت الأمل في زيارة لبنان مجدّداً، فآخر زياراتي لهذا البلد الجميل كانت عام ٢٠١١، يومها أحسست أنّ لبنان تغير وأنّه بات غريباً وفقد ما كان يميزه. بلد فقد القدرة على البسمة وصناعة البهجة وبات محاطاً بالأشرار. وخلال فترة وجيزة جداً تغيّرت أشياء كثيرة بشكل مدهش وأقرب إلى المعجزة. تمّ التخلّص من أقبح نظام عرفته المنطقة، سقط نظام الأسد وهرب بشار في ظلمة الليل إلى روسيا، لتسطع شمس الأمل بعد طول غياب. وفوراً تمّ انتخاب رئيس للجمهورية بعد طول انتظار وتمّ تكليف رئيس وزراء، والاسمان آتيان من خارج المنظومة السياسية التقليدية، ما ولّد أملاً حقيقياً بأنّ لبنان قد يكون فعلاً مع استحقاق تاريخيّ جديد. وانعكس تواصل المحيط الدولي والعربي بالقيادة اللبنانية الجديدة وزيارة وزير الخارجيّة السعودي لبنان ولقاءاته مع المسؤولين حيث أدلى تصريحات شديدة الأهمية حثّ فيها على مواصلة الإصلاح مؤكّداً أنّ السعودية مهتمة بدعم لبنان والدولة فيه، إيجاباً على الأجواء العامة، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية. ولأنّ لبنان بلد خدماتيّ وسياحي في المقام الأول، بدأت وسائل إعلامية مختلفة تتناقل أخباراً غير رسمية وغير دقيقة عن أنّ لبنان يتوقّع وصول أكثر من مليون زائر خليجي في الصيف القادم معظمهم من السعودية، وأنّ أصحاب الفنادق والمطاعم والمحالّ التجارية يعدّون العدّة لموسم صيف أكثر من استثنائيّ تصاحبه المهرجانات الفنية والفعاليات المشوقة. هناك أعداد غير بسيطة، مثلي، ممّن لديهم شوق للبنان وذكريات لم تمحها عجلات الزمن، ذكريات تكاد تنطق. ولكنّه جيل قديم، جيل يحنّ إلى صخرة الروشة وإلى سحرها وكأنّها وجه بحار قديم، جيل يحنّ إلى البحر والجبل ورائحة شجر الصنوبر وشموخ الأرز وسهل البقاع وعيون الماء المتدفق من الأودية وأعالي الجبال. جيل يحنّ إلى ترويقة منقوشة الزعتر والكعك بالكنافة وصوت فيروز القادم من ذهب النسيان، جيل يحنّ إلى نسمات الهوى الآتي من مفرق الوادي، ويتلهف إلى الاسترخاء في قهوة على المفرق. جيل يحنّ إلى جارة الوادي أو جارة القمر، جيل يحنّ إلى ليالي الشمال الحزينة ويحتفل بآخر أيام الصيفية لأنّ باختصار رجعت الشتوية. ومع الأمل والفرحة يبقى هناك خوف خفي، خوف من ألّا يكون الواقع مطابقاً لما في مخيّلة الناس، وأنّ خطر الأشرار لا يزال قائماً. هناك جيل عاش واقع لبنان كسويسرا الشرق والوجهة السياحية الأولى ومركز الأعمال والتسوّق. وهو الجيل نفسه الذي صدم بأهوال الحرب الأهلية المدمّرة وحجم الكراهية والاقتتال الطائفي وشلالات الدماء التي سالت وظل يتساءل كيف لهذا الشعب الذي عرف بعشق الحياة يتحوّل بشكل صادم ومفاجئ إلى شعب يزف العشرات بشكل متواصل إلى الموت. واليوم يراهن جيل محبي لبنان على أن الشعب العنيد قادر على أن يحول فكرة راجع يتعمر لبنان من مقطع في أغنية إلى واقع ملموس. منودِّع زمان منروح لزمان ينسانا على أرض النِّسيان منقول رايحين... منكون راجعين على دار الحبّ ومش عارفين آه راجعين يا هوى.. على دار الهوى.. على نار الهوى راجعين كل الطرق تؤدّي إلى بيروت، مهما طال الزمن، سواء أكان الطريق سلساً أم وعراً، ولكن يبقى الطريق الأجمل هو طريق النحل "طريق النحل الطاير فوق الضوّ المكسور بيصير يرسم دواير يكتب على الهوى سطور" طغت الفرحة والأحاسيس والمشاعر على موضوعيّة التحليل السياسيّ وقراءة الأحداث، لبنان له مكانه كبيرة في قلوب محبين كثر وطال شوقهم له، هم يحبونه ويريدون الخير له، "وحياة ريشاتك وإيامي سوا وحياة زهر الشوك وحبوب الهوا ان كنت لعندن رايح وجن الهوى خدني ولنو شي دقيقة وردني".... من باب الاحتياط المفعم بالأمل والفرحة الصادقة النابعة من القلب سأبدأ في "ضبّ الشناتي"، وأنتظر وأتخيّل وأتأمّل. "انْ كان حالِتْها حالِة... وعَ رِيفا شفتْ دْمُوعْ قِلَّا عِينَيها بْبالي... وهَمَّا بْوُجِّي مزروعْ وتحرقني هاك الضحكِة... الْـ بَدّا تحكي وما بتحكي يا خَوفي يْمِيل خِيَالا... والبُعد يغَيِّر حالا". طال الانتظار والشوق زاد... انطرونا كتير...


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد