عبدالرحمن الحبيب
فكرة أن الحضارات نشأت منفصلة ومتميزة عن بعضها البعض، ونظرة الغرب لنفسه كمتفوق حضارياً عن كافة الحضارات، تقلبها بروفيسورة التاريخ في جامعة أكسفورد جوزفين كوين، فالغرب منذ القرن التاسع عشر يقود العالم زاعماً أن خلفيته التاريخية منحصرة بالحضارة اليونانية والرومانية القديمة، وكأن الحضارات الأخرى غير مؤثرة على حضارته من الصين إلى غرب أفريقيا مروراُ بالهند والشرق الأوسط.
في كتابها «كيف صنع العالم الغرب: تاريخ 4000 سنة»، تعترض جوزفين على الشائع في الثقافة الغربية بأنها نشأت منفصلة عن الحضارات الأخرى، بينما تكشف الأحافير والوثائق التاريخية أن جذور الغرب الحديث في كل تفاصيله تأثرت بالحضارات المتنوعة بدءًا من قوانين بابل، والري الآشوري، وفن الإبحار الفينيقي إلى الأدب الهندي والفارسي، والثقافة الإسلامية العربية، لينتهي هذا التراكم الحضاري في عصر النهضة وما تبعه من الاستعمار الأوروبي؛ كل ذلك يعيد التفكير في مقولة «الحضارة الغربية» بطرح فهم جديد للتاريخ الغربي مخالفة الشوفينية الغربية غير العقلانية سواء بالاعتقاد بالتفوق العرقي أو القومي المتطرف والإيمان الشديد بالتميز عن الآخرين.
المؤلفة تؤكد أن تقليص الخلفية التاريخية للغرب الحديث إلى سرد يركز على اليونان وروما يفقر رؤيتنا للماضي ويشوه فهمنا للتاريخ العالمي، فحتى الإغريق والرومان لم يروا أنفسهم بهذه الطريقة، فقد فهموا وناقشوا ارتباطاتهم الخاصة بالآخرين واستعاراتهم منهم وقدموا ثقافتهم باستمرار باعتبارها نتيجة للاتصال والتبادل مع الحضارات الأخرى حسب الكتابات التي تركوها وراءهم بتحليلات غنية لمصادر أدبية قديمة أخرى مثل ملحمة جلجامش والنصوص المقدسة والسجلات المكتشفة حديثًا في الفن والتحف الفنية بالإضافة إلى النتائج المستخلصة من أحدث التطورات العلمية في تأريخ الكربون وعلم الوراثة البشرية.. كلها تفند أسطورة الغرب الحديث باعتبار إنجازاته الحديثة معجزة ذاتية الصنع.
أطلاقا ليست ذاتية الصنع الغربي، حسبما تقول جوزفين التي تسرد الأعمال الثقافية الرائعة والعسكرية حول البحر الأبيض المتوسط في الألفي عام قبل الميلاد حتى العصور الوسطى.. مشددة على أن هذا «التفكير الحضاري الغربي» في حد ذاته هو العدو، ليس فقط في التأريخ ولكن في الجغرافيا السياسية الحديثة؛ فعلى سبيل المثال، تنبأ صمويل هنتنغتون في كتابه «صراع الحضارات» (1996) بأن الحروب المستقبلية لن تحدث بين الدول بل بين «الحضارات» مثل «الحضارة الغربية»، أو «الحضارة الإسلامية»، أو «الحضارة الأفريقية»، أو «الحضارة الصينية»، وكأنها حضارات منفصلة تماما.
من هنا، تؤكد المؤلفة أن «الحضارة الغربية» لم تكن لتوجد لولا التأثيرات الإسلامية والإفريقية والهندية والصينية.. تبدأ الرحلة التاريخية في الكتاب من ميناء جبيل الصاخب في لبنان في حوالي عام 2000 قبل الميلاد، أي في منتصف العصر البرونزي، الذي «افتتح عصراً جديداً من التبادل المنتظم لمسافات طويلة». وتوفر تقنيات التأريخ بالكربون المطبقة على الاكتشافات الأثرية الحديثة أدلة دامغة على مدى «عولمة» البحر الأبيض المتوسط بالفعل، قبل أربعة آلاف عام، فقد ذهب النحاس الويلزي إلى الدول الاسكندنافية، وذهب القصدير الكورني إلى ألمانيا، لصنع الأسلحة البرونزية، وصُنعت حبات العنبر البلطيقية، التي عُثر عليها في قبور النبلاء الميسينيين، في بريطانيا.
هذا التبادل التجاري بين الشعوب والسفر المتبادل يؤدي إلى الاختلاط الثقافي، ولم يكن الأخذ من الثقافات الأخرى يشكل إهانة في ذلك الوقت (لم تظهر القومية بشكلها الحديث)، بل كانت الاستفادة من الثقافات الأخرى تشكل قوة، كما تعلمنا لاحقاً من ملاحظة بوليبيوس عن الرومان المتغطرسين: «إنهم على استعداد غير عادي لاستبدال عاداتهم بممارسات أفضل من أماكن أخرى».. «كان اليونانيون والرومان دائماً جزءاً من شبكة أوسع من الثقافات»؛ وحتى في الحالات التي نجد فيها حضارة ما منعزلة فهي لفترة زمنية محدودة لا تتجاوز قرنا، حسب المؤلفة.
تسرد المؤلفة العديد من الرسائل والاتصالات والتواصل بين الممالك في العصور القديمة، وتذكر إنها «تكشف عن أهمية الاتصال والتواصل بين ما يُنظَر إليه عادة على أنه ثقافات أو حضارات قديمة منفصلة»، فمثلاً يصف مقطع من مسرحية مفقودة ليوربيديس كادموس، مؤسس مدينة طيبة، على النحو التالي: «وُلِد فينيقياً، ثم غيّر أصله إلى يوناني»؛ وتوضح المؤلفة في فقرة إبداعية عن أصداء هوميروس للملاحم السابقة: «لا شك أن أقدم أعمال الأدب اليوناني تحتفظ بآثار لقاءات مع عالم أكبر من الأغاني بلغات أخرى».
الكتاب نقد وتفكيك للصرح الفكري «للغرب»، وللاهتمام الأوحد المكرس لليونان وروما، يصل إلى إبعاد اليونان وروما عن مركزية التاريخ ويلقي الضوء على مجموعة من الحضارات والشعوب واللغات الأخرى، حيث لا توجد ثقافة بدون اتصال، ليستخلص إلى أنه «لم تكن هناك قط ثقافة غربية أو أوروبية خالصة واحدة»، وقصة العصور القديمة الكلاسيكية هي في الواقع شبكة من اللغات والثقافات المتعددة، وان العديد من الإنجازات التي تُعزى عادة إلى حالات فردية أو فترات معينة كانت في واقع الأمر نتيجة لاقتراض وتبادل طويل الأمد بين الثقافات والشعوب.
فكرة «الغرب» ظهرت في القرن التاسع عشر، كما تستنتج المؤلفة التي ترى أن هؤلاء السادة المؤرخين في القرن التاسع عشر كانوا ضيقي الأفق، بنفس الطريقة التي سنظهر بها للمؤرخين بعد قرن من الزمان.