فرح الناس في غزة وفي سائر الأقطار العربية والإسلامية بإيقاف إطلاق النار في غزة وإنهاء الحرب وعودة النازحين إلى أنقاض ديارهم (إن وجدوها أو عرفوها)، وفرحوا أن الله رد اليهود من غير أن يتمكنوا من تهجير الغزيين أو إفنائهم أو أخذ أرضهم بعد طول البطش والعدوان، وقد فرحتُ وأملت خيراً بهذا الاتفاق الذي يحقن الدماء ويمسك ما بقي من الأرواح، وإن كنت أعلم يقينًا أن هذا الاتفاق هو "هدنة على دَخَن"، أي هدنة على نفوس حانقة مغيظة متربصة، فهذا الاتفاق ليس إلا غطاء وأسفل منه جذوة الحرب متقدة لم تُطفأ نارها بعد، ولن تلبث الحرب أن تضطرم مرة أخرى بعد حين، وليس هذا تشاؤمًا مني ولا تمنيًّا للبلاء ولا هو دعوة إلى استئناف الحرب، بل لأن بواعث الحرب لا تزال قائمة، ودواعيها لا تزال حاضرة يراها كل ذي عينين ويفطن إليها كل من كان عنده شيء من فهم، وإن مَن سَعَوا في أمر الاتفاق لم يسعوا في حسم أصل الداء، فيكون من لوازم ذلك أن تنبعث الحرب في كَرَّة جديدة، وإن من بواعث تجدد الحرب فيما أرى:
مداومة اليهود على إدخال جماعات منهم إلى المسجد الأقصى وإقامة شعائر لهم عنده، فهذا يهيج حمية كل فلسطينى وكل مسلم من ورائه، ويبعث على الغضب والانتصار لهذه البقعة المقدسة.
وكذلك مما يذكى النار تحت غطاء الاتفاق أنه لم يرد الأرض الفلسطينية إلى أهلها وهذا هو رأس النزاع ومعقد الخصومة، فحين يجد الفلسطيني داره وضيعته وقريته نهبًا مقسمًا بين يدي الأصفر والأشقر والأسمر الآتين مما وراء البحار، بينما هو وابنه وحفيده لاجئون فى أرضهم وفي غير أرضهم، فكيف تريده أن يفعل؟! إن كثيرًا من أهل غزة منازل آبائهم وأجدادهم ليست في غزة، بل في عسقلان أو بئر السبع لكنهم هُجِّروا قبل زمن وأُلجِئوا إلى غزة، ويحسن بي ألا أقول هُجِّروا وأن أستبدل بها كلمة (حُبسوا)، فلقد حبسهم الإسرائيليون في غزة حبسًا وأرصدوا لهم على أبوابها السجانين والحراس! فمَن مِن الغزيين من يرضى هذا؟! كذلك هي الضفة الغربية لا يزال اليهود يستوطنونها، ويقتسمون أرضها، ويقطعون طرقها، والفلسطيني هو الذى صار في (الجيتو) والمخيمات والمعازل! فهذا احتلال لا يرضاه حر، ولئن صبر عليه الفلسطيني عامًا أو عشرًا فلن يصبر على ذلك أبد الدهر، ولا بدَّ من يوم يثور فيه غضبه غير مبالٍ بهدنة ولا اتفاق ولا جدار ولا سلاح.
والأسرى الفلسطينيون عند العدو هم من بواعث تجدد الحرب، فحين يجد الفلسطيني أن له ألوف من بني جنسه نساء وأبناء وإخوة يأسرهم العدو ثم يلقيهم عقودًا متتابعات من الزمن في غيابات السجن؛ فكيف تريده أن يفعل؟! إنه سيعيد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وسيغزو العدوَّ في عقر داره ويأسر منه جماعة ليبادلهم بإخوته ونسائه عند العدو، فهل يكون قد خالف في ذلك فطرة البشر؟!
إقرأ أيضاً: القبح والقبائح
وإنَّ الثأر هو من بواعث تجدد الحرب، فانظر كم ألف طفل قتل اليهود آباءهم وإخوتهم وأُسرهم فى طرفة عين، فهل تظن أن هذا الصغير عنده ما يخشى عليه الفقد؟! وهل بقي له من دنياه ما يبكى عليه؟! بل هل بقي في أجفانه دمع لعزيز أو غالٍ يبكيه أو يرثيه؟! إن من غزوا مستوطنات الغلاف ومن دقوا بأيديهم العزلاء أعناق الميركافاه فى طوفان الأقصى هم أيتام حروب 2008 و2014، فكيف بأيتام حرب الطوفان؟! إنَّ الإسرائيليين يصنعون ببطشهم (هولوكوستهم) الذي منه يفرون!
وإنَّ الدين كذلك من بواعث تجدد الحرب، ففلسطين عند المسلم هي وقف إسلامي مدة 1350 عاماً، ولكل مسلم أنَّى كان جنسه أو جنسيته سهم من هذا الوقف، والوقف مما لا يجوز التنازل عنه أو بيعه أو التصرف فيه، فكيف يأتي الغرباء الأشتات ليأخذوه ويطردوا منه أهله؟! إن كل مسلم وكل فلسطينى يعلم أن إسلامه يوجب عليه استرداد داره وأرضه ومسجده وأن ينتصر للمستضعفين، واليهود كذلك يرون فلسطين وما حولها وعد الله لهم، فإن كان كل فريق يدين فى ديانته بأن له الأرض والمسجد وليس للآخر شيء فإن الحرب بينهما متجددة لا محالة وإن طالت بينهم الهدنة.
إقرأ أيضاً: عم بطاطا!
لقد أراد راعي إسرائيل الجالس وراء بحر الظلمات أن تستمر المقتلة الفلسطينية فاستمرت خمسة عشر شهرًا من الدم والهلاك والدمار، ثم بدا لراعي إسرائيل أن يوقف الحرب فأمر بها فأوقفت، وأمر بالهدنة فعقدت، ولكنه في كلا الحالين لم يحسم الداء، ولا حل عقدة النزاع، ولا أزال الاحتلال، فحق لها أن تُدعى "هدنة على دَخَن".