: آخر تحديث

أميركا... لا للدكتاتورية

0
0
0

الاحتجاجات التي شهدتها أميركا تحت شعار "لا للملوك ولا للدكتاتورية"، والتي قابلها الرئيس دونالد ترامب بالسخرية، ليست مجرد احتجاجات عابرة، بل تعبر عن حركة يسارية ممتدة تعود جذورها إلى عام 1818، وتطورت مع ستينات وسبعينات القرن الماضي، ووصل عدد من أعضائها إلى الكونغرس وجسدتها خطابات الرئيس الأسبق باراك أوباما. واليوم، تعبر عن نفسها على المستوى المؤسساتي والفكري والنخبوي، وعلى مستوى جيل من الشباب يُعرف بالجيل Z وجيل ألفا. وقد تأسست حركة "المُوحّدون" عام 2016 كرد فعل على تغوُّل الرئيس ترامب وظهور ظاهرة الفردانية الشخصانية على حساب المؤسساتية، وتنامي الاتجاهات الشعبوية البيضاء العنصرية التي جاءت على حساب حقوق الأقليات الإثنية.

هذه الحركة هدفها استحضار حرص المؤسسين الأوائل على وجود نظام الجمهورية الرئاسي الذي يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، وتفاديًا لتغوُّل كل سلطة في صلاحياتها، أخذوا بمبدأ الكوابح والجوامح بين السلطات، والذي بالرغم من مبدأ الفصل بين السلطات، يحول دون تمادي أي سلطة في ممارسة صلاحياتها بمشاركة السلطة الأخرى في صلاحياتها. والملفت في هذه الحركة رفع شعار "نحن الشعب" والدفاع عن الدستور وهما أساس النظام السياسي الأميركي. ولفهم هذه الحركة وتداعياتها على مستقبل النظام السياسي الأميركي، لابد من فهم أصول ومقومات النظام السياسي الأميركي وقلب ومحور هذا النظام ونقاط قوة وضعف الرئيس الأميركي.

وابتداءً، أين تكمن قوة الرئيس ترامب في شخصيته وشعبويته أم في العلاقة القائمة الآن بين السلطات الثلاث؟ قوة الرئيس تكمن في سيطرة الحزب الجمهوري على الكونغرس الأميركي بمجلسيه النواب والشيوخ وتراجع دور الحزب الديمقراطي. وهذا يُعطي للرئيس ترامب قوة استثنائية يحمي نفسه بها ويضمن تمرير ما يريد من قرارات وزيادة هيمنته على السياسة الخارجية للدولة. فالأصل في النظام السياسي الأميركي أنه نظام رئاسي، فلقد حرص المؤسسون على أن تكون لـ أميركا الواحدة رئيس واحد قوي لكن ليس دكتاتورًا. يجسد مفهوم الهوية والأمة الأميركية الواحدة، ومعبرًا عن كل أميركا بكل أقلياتها وليس عن العنصر الأبيض فقط، وكما توصف بـ "أمة المهاجرين". وبترجمة لقول الرئيس كينيدي: "كيف تحب أميركا؟" مخاطبًا كل مواطنيها.

وتبرز مقومات قوة الرئيس الأميركي من أمرين: فهو، وعلى خلاف كل أعضاء الكونغرس وحكام الولايات الذين يُنتخبون على مستوى الولاية، الرئيس الأميركي هو الوحيد الذي يُنتخب على مستوى كل الولايات وكل الشعب الأميركي في انتخابات كل أربع سنوات لمرتين فقط. والأمر الثاني أن محورية الرئيس ومؤسسة الرئاسة تجسدت في الدستور الذي حصر كل السلطة التنفيذية في شخص الرئيس فقط. وتعمل كل المؤسسات الإدارية والتنفيذية في خدمة وتابعية الرئيس، فهو الذي يختار حكومته والتي تعمل تحت مسؤوليته ويكونون مسؤولين أمامه وليس أمام الكونغرس، فمتى شاء يُقيل ويُعين. ومن مظاهر قوة الرئيس أيضًا الصلاحيات والسلطات التي منحها له الدستور في كل السلطات التشريعية والقضائية. فهو رمز الأمة الأميركية، ولا يصبح مشروع القانون قانونًا إلا بمصادقته عليه، ويقوم بتعيين قضاة المحكمة العليا والتي حرص ترامب في ولايته الأولى على أن يُعين قضاة محافظين أكثر ولاءً.

ومن مصادر قوته، لا يملك الكونغرس إقالة الرئيس إلا من خلال إجراءات مطولة ومعقدة ومحاكمة شائكة وبأغلبية ثلثي الكونغرس. إلى جانب هذه السلطات يُعتبر الدبلوماسي الأول فهو المسؤول الأول عن إدارة السياسة الخارجية والقائد الأعلى للقوات المسلحة وتابعية المؤسسة العسكرية له. وتخوفًا من المؤسسين أن يُسيء الرئيس هذه السلطات ويُحوِّله إلى دكتاتور وملك مطلق يُهدد وحدانية الأمة الأميركية ويُعرضها للتفكك، فقد حرصوا على وضع نظام الكوابح والجوامح الذي يحكم العلاقة بين السلطات الثلاث، فالرئيس الأميركي وبالرغم من كل سلطاته لا يستطيع أن يمارسها بدون موافقة الكونغرس، فعلى سبيل المثال لا موازنة بدون موافقة مجلس النواب واعتماده للموازنة، ولا موافقة على المعاهدات الدولية دون موافقة مجلس الشيوخ، وحتى التعيينات الرئاسية الكبيرة تحتاج موافقة الشيوخ، ويمكن للكونغرس استدعاء أي مسؤول لمناقشته في أمر سياسته. وبالنسبة إلى المحكمة العليا تملك سلطة مهمة وفاعلة في الحكم على أي قرار رئاسي دستوري أو غير دستوري.

ومن القيود المفروضة على الرئيس دستوريًا أن لا يحكم لأكثر من فترتين رئاسيتين أي ثماني سنوات فقط متتالية أو منفردة كما الحال مع الرئيس ترامب، ولا يمكن له أن يحكم لفترة رئاسية ثالثة إلا بتعديل الدستور وهذا يحتاج لأغلبية أعضاء الكونغرس. وهنا التخوف من رغبة الرئيس ترامب في الرئاسة الثالثة إذا استمرت سيطرة الحزب الجمهوري على مجلسي الكونغرس بما يحقق هذه الأغلبية وهذا أحد مبررات حركة "لا للملوك المُوحّدون" والحد من توغل الرئيس ترامب. إذًا، الرئيس الأميركي وبالرغم من أنه يملك من السلطات والصلاحيات ما يجعله ملكًا، إلا أنه لا يمارسها بمفرده بل بمشاركة السلطتين التشريعية والقضائية.

هذا ولا يمكن فهم قوة الرئيس وضعفه في السياق المؤسساتي والدستوري فقط، فالنظام السياسي الأميركي نظام مفتوح على بيئته السياسية الشاملة، وكل المناصب كما يُقال تأتي بالانتخابات، وتحكمها منظومة من القيم الديمقراطية والليبرالية التي أساسها المواطنة الواحدة والحقوق المتساوية، ولذا وُصفت بـ "أمة من المهاجرين". فالنظام السياسي الأميركي أشبه بالصحن اللاقط الذي تتدفق عليه آلاف المؤثرات من البيئة السياسية الشاملة للنظام، وخصوصًا في نظام كالنظام الأميركي يتكون من آلاف الأقليات العرقية والإثنية. ورأينا كيف لهذه المؤثرات الجديدة في أعقاب الحرب على غزة مثل التحركات الطلابية في العديد من الجامعات وتنامي دور الجماعات الدينية كالمسلمين ومرشحهم زهران الممداني لولاية نيويورك. ولذلك دائمًا عين الرئيس على هذه المؤثرات وخصوصًا في الانتخابات الرئاسية. ومن بين الجماعات التي تلعب دورًا حاسمًا تصويتًا ومالًا وأيديولوجيًا اللوبي الصهيوني والأصولية المسيحية التي يزيد عددها عن ستين مليونًا وهذا ما يفسر لنا الانحياز الرئاسي لإسرائيل. وأيضًا هناك قوة الرأي العام والنخب الفكرية. كل هذه المؤثرات لم تعد تسير في المسار التقليدي بل نشهد تحولات كبيرة تدفع في اتجاه تفكك المجتمع الأميركي وتنامي النزعات الاستقلالية لبعض الولايات. وبالعودة إلى الرئيس ترامب نجده يدفع في هذا الاتجاه بتحالفاته مع رجال المال واللوبي الصهيوني والأصولية المسيحية وانتقاداته لبعض الأصوات المسلمة وسعيه الحثيث لتغيير بنية النظام السياسي وتوغله في ممارسة سلطاته وصلاحياته بما يتجاوز الحدود الدستورية. وتبقى كل الاحتمالات قائمة حتى الانتخابات النصفية للكونغرس التي ستقرر إلى أين يسير الرئيس الأميركي وتحوله لما هو أبعد من دكتاتور جديد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.