: آخر تحديث

الدبلوماسية الفلسطينية: النشأة والتطور

1
2
2

يمكن القول إنَّ الدبلوماسية الفلسطينية قد نشأت في نهاية الستينات من القرن الماضي، فبعد الإعلان عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية في المؤتمر العربي الفلسطيني الأول الذي عُقد في مدينة القدس في 28 أيار (مايو) 1964، بناءً على قرار مؤتمر القمة العربي الذي عُقد في القاهرة في السنة نفسها، والذي تم فيه انتخاب الراحل أحمد الشقيري رئيسًا لها، قررت المنظمة فيما بعد افتتاح سبعة مكاتب لها في عدد من الدول منها الجزائر ولبنان وسوريا ومصر. ثم استقالة الشقيري بعد مؤتمر القمة العربي في عام 1967 الذي عُقد في الخرطوم واشتهر بمؤتمر (اللاءات الثلاث)، وتولى الراحل يحيى حمودة قيادتها حتى عام 1969، حيث تولى من بعده الرئيس الراحل ياسر عرفات رئاستها حتى عام 2004.

ولكن للتاريخ يجب القول إنه قد سبق ذلك بفترة قيام حركة فتح التي تشكلت في نهاية الخمسينات وأعلنت انطلاقها في عام 1965 بإنشاء عدد من المكاتب لها في بعض الدول منها الجزائر في عام 1962، وإن كان ذلك تحت مسميات مختلفة. وقد استطاعت من خلاله وعبر القائد الكبير الراحل خليل الوزير (أبو جهاد)، ليس فقط إقامة علاقة متميزة مع جبهة التحرير الوطني في الجزائر، بل إقامة علاقات هامة ومتميزة مع معظم حركات التحرر في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، والتي أصبحت تلك الحركات فيما بعد هي التي تقود معظم الدول بعد تحررها، وأصبح قادتها رؤساء دول وأصبحت حركة فتح تقود علاقات هامة معهم في مختلف النواحي وهو ما ساعد لاحقًا في فتح مكاتب للمنظمة بعد تولي رئيس حركة فتح، العمود الفقري للمنظمة، الرئيس الراحل ياسر عرفات رئاستها في عام 1969 كما أسلفت.

ولكنَّ التحول الرئيسي الذي طرأ على برنامج منظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر الرباط عام 1974 والذي سُمي آنذاك بالبرنامج المرحلي، ساعد المنظمة في التوسع والانتشار وفي فتح مكاتب لها في مختلف أرجاء العالم تحت مسميات مختلفة (مكاتب اتصال وإعلام)، مستفيدة من العلاقات التي أنشأتها سابقًا حركة فتح والتي شغل مسؤولو مكاتبها في المراحل الأولى مسؤولية مكاتب المنظمة. ومن الجدير بالذكر أن أول مكتب فُتح لها في أوروبا الغربية كان في فرنسا في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1975 والذي ترأسه الراحل عز الدين القلق خلفًا لمحمود الهمشري الذي شغل منصب ممثل حركة فتح في باريس والذي تم اغتياله في عام 1973. واستمرت بعد ذلك المنظمة في فتح مكاتب أينما تسنى لها ذلك لتحقيق هدف أساسي ألا وهو نقل معاناة الشعب الفلسطيني وما يتعرض له، ونقل الرواية الفلسطينية لكل مكان من هذا العالم وتثبيت وجود فلسطين على الساحة الدولية. وأصبحت تلك المكاتب بالرغم من محدودية التمويل وقلة الخبرة نواة العمل الدبلوماسي الفلسطيني، وبالرغم من كل القيود التي كانت تحد من حركتها تحت مسميات مختلفة، إلا أنها استمرت واعتمدت على خبرات من تم تعيينهم على رأس تلك المكاتب في المجالات المختلفة، فالمثقف عمل في مجال الدبلوماسية الثقافية، والاقتصادي عمل في مجال الدبلوماسية الاقتصادية وهكذا.

ومع مرور الأيام اكتسبت الخبرة اللازمة من خلال العمل الدبلوماسي على الأرض بكل نواحيه، وقد شكلت الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي ترأسها الراحل فاروق القدومي، نواة وزارة الخارجية، حيث كانت هي المشرف الأساسي على كل العمل الدبلوماسي والموجه له، وقد استطاعت تلك النواة تحقيق انتصارات دبلوماسية كثيرة على مدار السنوات واستطاعت أيضًا الوقوف في وجه الرواية والدعاية الصهيونية، بل وهزيمتها في مرات كثيرة، بعد أن قامت إسرائيل باغتيال عدد من مدراء مكاتب منظمة التحرير حول العالم وخصوصًا في أوروبا، حيث كانت إسرائيل تسعى لمنع التمدد الفلسطيني وذلك من أجل تثبيت روايتها المستغلة لعقدة الذنب التي تشكلت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية والفظائع التي ارتكبت فيها بحق اليهود. ولكن كانت منظمة التحرير واعية لذلك وتولي العمل الدبلوماسي أهمية كبرى وتعتمد عليه لشرح ما يقوم به الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني وتثبيت الرواية الفلسطينية من ناحية وتبرير ما تقوم به الثورة الفلسطينية من كفاح مسلح وحشد الدعم له من ناحية أخرى. أضف إلى ذلك سعيها الدائم لإنشاء علاقات متينة مع الأحزاب والحركات التقدمية في مختلف أنحاء العالم بل ودعمها من أجل الوصول لمراكز الحكم في بعض الأحيان. وقد تطور عمل تلك المكاتب مع تغير الاستراتيجية الفلسطينية بعد إعلان الاستقلال في الجزائر عام 1988، حيث تحولت معظم تلك المكاتب إلى سفارات خصوصًا في الدول التي اعترفت بفلسطين في ذلك الوقت، ووصل عدد سفراء دولة فلسطين إلى سبعين سفيرًا منتشرين حول العالم.

وقد تم استحداث منصب وزير الخارجية والذي تولاه الراحل فاروق القدومي بعد إعلان الاستقلال، ومع التوقيع على اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، انتقل مركز صنع القرار بالنسبة إلى تلك السفارات والمكاتب التابعة لمنظمة التحرير لداخل فلسطين، فبدأ تسيير العمل الدبلوماسي الفلسطيني عبر وزارة التخطيط والتعاون الدولي والتي كانت بمثابة وزارة الخارجية لفلسطين في المرحلة الأولى. وقد قاد العمل الدبلوماسي فيها وببراعة الدكتور نبيل شعث عضو اللجنة المركزية لحركة فتح (والذي تشرفت بالعمل معه) وبتماس مباشر مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، حيث إن القدومي كان قد اتخذ موقفًا معارضًا لاتفاق أوسلو ورفض أن يعود لفلسطين بمقتضاها، وبالتالي تولى الرئيس ياسر عرفات زمام الأمور بنفسه فيما يتعلق بالعمل الخارجي، وقد أحدث هذا نوعًا من الازدواجية في العمل الدبلوماسي، وفي تنازع الصلاحيات بين الدائرة السياسية ووزارة التخطيط والتعاون الدولي حتى العام 2003، حيث تم إنشاء أول وزارة خارجية لدولة فلسطين والتي تولى قيادتها أيضًا د. نبيل شعث كوزير للخارجية. وخلال تلك الفترة تم إعادة تأهيل وزارة التخطيط والتعاون الدولي بالمسَمّى الجديد وبشكل يتناسب مع متطلبات عمل وزارة الخارجية وأيضًا مع عمل السلطة الوطنية الفلسطينية المعترف بها رسميًا من مختلف دول العالم. وبتولي د. ناصر القدوة وزارة الخارجية، تم إصدار أول قانون للسلك الدبلوماسي الفلسطيني في عام 2005 بحيث قام بترتيب أسس العمل وآلياته، من جميع الجوانب التنظيمية والمالية والتوزيع الجغرافي وغيره، وأيضًا تم خلال تلك الفترة اعتماد نظام السفير غير المقيم كأحد أدوات الانتشار الدبلوماسي في كل أرجاء العالم، وتم فتح سفارات جديدة أو تحويل مكاتب المنظمة لسفارات في الدول التي اعترفت بفلسطين، بحيث أصبحت سفارات وبعثات فلسطين حول العالم تتجاوز المئة وبتمثيل غير مقيم في ما يقارب باقي دول العالم تقريبًا وهو ما يُعد تمثيلًا دبلوماسيًا كبيرًا لدولة تحت الاحتلال.

وقد عانى العمل الدبلوماسي كثيرًا بعد وصول حركة حماس للحكم وتعيين السيد محمود الزهار وزيرًا للخارجية الذي يحمل برنامجًا سياسيًا مختلفًا عن كل ما تم التأسيس له على مدار عقود، ولكن ولحسن الحظ انتهت تلك الحقبة بسرعة بتشكيل حكومة وحدة وطنية ترأس لفترة قليلة فيها الدكتور زياد أبو عمر وزارة الخارجية، تبعه بعدها الدكتور سلام فياض الذي احتفظ بحقيبة وزارة الخارجية لفترة وجيزة بالإضافة إلى مهامه كرئيس للوزراء وتبعه في قيادة الوزارة الدكتور رياض المالكي كأطول فترة لوزير خارجية امتدت لأكثر من عقد ونصف من الزمان.

وقد عانى السلك الدبلوماسي جراء شح الموارد وقلة الإمكانيات لفترة من الزمن ولا يزال، ولكنه استطاع مواجهة كل تلك المعوقات، وطوَّر من أدائه مع ظهور جيل جديد من الدبلوماسيين الشباب وبخطاب ولغة متمكنة، وأدوات مختلفة، كما عزز السلك الدبلوماسي دور ومكانة المرأة على مر تاريخه، حيث تولت دورًا رياديًا في هذا المجال فتصدرت عدد من الدبلوماسيات المشهد كسفراء لدولة فلسطين التي وصل عددهن إلى 18 سفيرة في عدد من الدول الكبيرة والمؤثرة مثل فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والسويد والنرويج، والبرتغال وإيرلندا وكذلك في أفريقيا في السنغال، وزيمبابوي وجنوب أفريقيا وأيضًا في آسيا وأميركا اللاتينية وتعاظم دورها إلى أن أصبحت امرأة تتقلد منصب الأمين العام لوزارة الخارجية وهي السيدة أمل جادو شكعة، والآن أصبحت السيدة فارسين أغبكيان شاهين أول امرأة تتقلد منصب وزير الخارجية لدولة فلسطين وكونها خامس امرأة عربية تتقلد هذا المنصب الهام في بلادها بعد الناها بنت مكناس، وفاطمة فال بنت أصوينع من موريتانيا، وأسماء محمد عبد الله من السودان، ونجلاء المنقوش من ليبيا، كل ذلك زاد من تقدير العالم لفلسطين بناءً على نظرتها للمرأة وتعزيز دورها في الحياة السياسية التي شغلت فيه المرأة مناصب وزارية مختلفة، كما تمكن الجيل الجديد من الدبلوماسيين من استخدام أدوات التواصل الاجتماعي في عمله واستعمل كل جوانب التكنولوجيا في التغلب على المصاعب.

وقد أصبحت الدبلوماسية الفلسطينية الآن تدمج بين جيلين من الدبلوماسيين في الوقت نفسه، جيل الخبراء والمخضرمين الذي يمتلك الكثير من الخبرة في العمل الدبلوماسي لاسيما في المنظمات الدولية، وجيل شاب استطاع أن يحدث فارقًا باستخدامه لأدوات العصر الجديد وأن يثبت نفسه في مختلف مجالات العمل الدبلوماسي الثقافي والاقتصادي وغيرها، وهذا ما يعزز مفهوم تدافع الأجيال والانتقال السلس بينها بما يضمن الإبقاء على حيوية هذه المنظومة وهذا العمل.

وهنا أريد أن أقول إن هذا التطور الكبير جاء ليعبر عن التحول الفعلي من دبلوماسية الثورة والتي قادها الراحل ياسر عرفات، لدبلوماسية الدولة التي يقودها وبكل مهنية الرئيس محمود عباس، والتي تأتي ضمن إطار الرؤية التي اعتمدتها دولة فلسطين في إطار بحثها عن السلام، وعملها الدائم من أجل إرساء أعمدة الدولة الفلسطينية الأساسية من مؤسسات وبنية تنظيمية وتشريعية لجعلها قادرة على تولي مهامها بشكل سلس وفعال بمجرد انتهاء الاحتلال وتحقيق حلم الدولة المستقلة. ولكن لا يزال هناك الكثير من القصور في مجالات عدة منها آلية الاختيار والتوزيع الجغرافي ووحدة الخطاب والكثير من الأمور الإدارية والرقابية وغيرها، وأيضًا هناك الكثير من العمل أمامنا للتطوير والتحديث، ولابد أن يأتي ذلك عبر إعادة النظر في قانون السلك الدبلوماسي والذي مر عليه أكثر من 20 عامًا، بحيث أصبح من الواجب العمل على تطويره بحيث يكون القانون هو الضابط الأساسي للعمل بمختلف جوانبه والذي من شأنه تفعيل المحاسبة التي تُعتبر أمرًا ضروريًا للتقويم والإصلاح ليتماشى مع رؤية الرئيس فيما يتعلق بإصلاح السلطة ولكني على ثقة تامة أننا نسير في الطريق الصحيح.

وأختتم بالقول إن جميع العاملين في وزارة الخارجية من إداريين وقنصليين ودبلوماسيين، والذين قدموا الشهداء على هذا الدرب، ساهموا في كل ذلك بشكل فعال ولا يزالون يعملون بكل إخلاص على تنفيذ هذه الرؤية للوصول بالمؤسسة الدبلوماسية الفلسطينية إلى أعلى الدرجات من الكفاءة والفاعلية.

هذه المقالة تعبر عن رأي الكاتب الشخصي ورؤيته للأمور من منظاره.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.