كلما اقترب موسم الانتخابات في العراق، نُصاب جميعًا بما يشبه "الدوار الديمقراطي": هل نُشارك؟ هل نقاطع؟ هل نبحث عن الأصلح؟ أم نبحث عن أقرب عشيرة؟ أم ننتظر "الكارت الأخضر" من أحد المرشحين في مجموعة واتساب مغلقة؟ الأسئلة كثيرة، والإجابات ضائعة بين صخب الشعارات وضجيج المولدات.
هناك من يقول: "قاطعوا الانتخابات، فالصمت أبلغ من التصويت!"، وهي جملة جميلة جدًا… لو كنا نعيش في مسرحية سياسية تؤمن بأن النظام يهتز من انسحاب الجمهور. لكن الحقيقة، النظام لا يهتز، بل يرتاح! فكلما قاطع المواطن، زادت نسبة التصويت لأقرباء المرشحين، وأصدقاء الطفولة، وسائقي الموكب. المقاطعة في العراق ليست مقاومة، بل هدية مجانية تُمنَح لأصحاب الأصوات المُضبوطة على إيقاع العشيرة و"المكرمة".
ثم يرتفع الصوت المعاكس: "اذهبوا وانتخبوا الأصلح!"، فتتساءل ببراءة مؤلمة: ومن هو الأصلح أصلًا؟ هل هو الأصلع الذي يظهر في كل حملة كأن رأسه يلمع من كثرة الوعود؟ أم صاحب اللحية الكثيفة الذي يتحدث عن التقوى بينما يسرق قوت الناس؟ هل هو من يعلّق صورته على جسر آيل للسقوط وكأنها شهادة إنجاز؟ أم من يوزّع بطانيات صيفية في عزّ الشتاء كرمز للكرم الانتخابي؟ أم لعلّه ذاك الخطيب المفوّه الذي يتحدّث عن النزاهة وهو مدرج على قوائم ديوان الرقابة؟ في هذا المشهد، لا يبدو أن "الأصلح" يملك فرصة، بل من يملك التمويل، والعشيرة، والماكينة الإعلامية.
في هذا السباق، الأصلح لا يفوز غالبًا، بل الأغنى، والأقرب، والأعلى صوتًا في مكبّرات العشيرة. فصاحب المبادئ يقف عند باب المفوضية، بينما يدخل ابن العشيرة من البوابة الخلفية حاملاً كيسين من الطحين... وتوصية من الشيخ.
أما العشائرية، فقد أصبحت أقوى من الدستور، وأسرع من المفوضية. دخلت السياسة من باب "الجاه"، واستقرت في قلب البرلمان. وإذا اجتمعت العشيرة مع المال السياسي، فاقرأ السلام على الديمقراطية، لأن الصندوق وقتها لا يفرز أصواتًا، بل شيكات مؤجلة ومكافآت انتخابية.
أحدهم قال ذات مرة: "صوتك أمانة"، فردّ عليه آخر: "والأمانة تحتاج ثلاجة لحفظها من حرارة الفساد!"
في هذه الدورة، هناك ضيوف كبار قد ينسحبون من العرض: التيار الصدري – بقاعدته الشعبية العريضة – قرر، أو على الأقل لمح، بالمقاطعة. وهذا ليس قرارًا سياسيًا عاديًا، بل صفارة إنذار من النوع الذي لا يسمعه سوى مَن لا يريد السماع.
وعلى الجبهة الأخرى، يقف ثوار تشرين، الذين أحرقوا صور المرشحين قبل أن تُطبع، ورفعوا شعار "نريد وطن" قبل أن تُعلن المفوضية عن نيتها في الإصلاح. هؤلاء خرجوا من رحم الوجع، لا من دُور الضيافة السياسية، وكانوا يحلمون ببرلمان لا يُدار بالريموت كنترول من فندق في أربيل أو قصر في الجادرية.
في النهاية، المشكلة ليست في الانتخابات، بل في المسرح كله: الممثلون لا يتغيّرون، والسيناريو محفوظ، والمخرج معروف، أما الجمهور... فنفسه في كل مرة، يُصفّق أولًا، ثم يُصفَع لاحقًا.
إذا ذهبتَ إلى الانتخابات، فاذهب لأنك تؤمن بشيء، لا لأنك أخذت مبردة هواء مستعملة. وإن قاطعت، فاقاطع لأنك تمتلك موقفًا، لا لأنك فقدت الأمل تمامًا. وبين هذه وتلك، لا تسمح لصوتك أن يُختزل في كيس طحين، أو وعد وظيفة لن تُنفَّذ، أو "بوستر" يبتسم لك من فوق عمود كهرباء لا يعمل.
الديمقراطية في العراق ليست غائبة، بل متوفرة... على الورق. والصوت الانتخابي ليس حقًا، بل "عرضًا" مؤقتًا في موسم الشعارات. والمواطن، إما مقاطع، أو مبيع، أو تائه بين صندوقٍ لا يغيّر، وحلمٍ لا يتحقق.
فهل نذهب للصندوق؟ أم نضع عليه لافتة تقول: "مغلق حتى إشعار آخر"؟

