: آخر تحديث

الإرهاق البنيوي

0
0
0

تدور الكثير من أحاديثنا حول التعب، نقص الوقت، القلق، والإنهاك الذي نشعر به يوميًا عند مواجهة واجباتنا والتزاماتنا – مهما كانت ملحّة أو متطلبة. كثيرًا ما يُستحضر ما يسمى بـ"متلازمة الاحتراق النفسي" (burnout)، الناتجة عن التعرض الطويل للضغط المهني. لكن علينا أن نتساءل: أليست هذه الحالة المزمنة من الضيق نتيجة سبب أعمق؟ طريقة العيش المفروضة علينا، الشكل الذي ينظم وجودنا في العالم، والذي اعتدنا عليه مضطرين.

ألا يكون هذا التعب نتيجة ترويض صامت وصبور لإيقاعاتنا، لإرادتنا، ولأفكارنا؟ ترويض يستنزف طاقتنا يومًا بعد يوم دون أن نكاد ننتبه. ولهذا فقد حان وقت العصيان؛ والعصيان، في أصله اللغوي، يعني التوقف عن الامتثال لأوامر تخدم مصالح تسلبنا حريتنا.

لسنا متعبين بسبب ما ننجزه، بل بسبب ما لا ننجزه (خارج حدود الإنتاجية والنفعية)، وبسبب الجوهر الوجودي الخانق الذي تعبر فيه حياتنا. ما المنطلقات الأنثروبولوجية والاجتماعية والوجودية التي أجبرنا على قبولها كي نعيش كما يُملى علينا أن نعيش؟ المشكلة ليست فينا (كما يقال لنا بلهجة اتهامية: "أنت لست كفء"، "أنت لا تتأقلم"، "اذهب إلى العلاج")، بل في كل ما نُحرم من فعله حين لا نستطيع إلا أن نقول نعم لنظام فُرض علينا العيش فيه، ولا يمكننا رفضه إلا بثمن النفي، العزلة، والاقتلاع. كتبت سيمون فايل: "غرس الجذور ربما يكون أهم حاجة – وأكثرها إهمالًا – في النفس البشرية".

اليوم تُثار نقاشات كثيرة حول النوستالجيا، وهل ينبغي استعادة عناصر من الماضي لإسقاطها على الحاضر. لكن لا أحد يفكر في الأساس: في الحرمان العاطفي المتعمد الذي يعيشه الإنسان المعاصر، وفي شعور التخلي الذي يجعله يبحث عن ملاذ في الماضي أو المستقبل لأنه يشعر مطرودًا من حاضره وضائعًا فيه. نحن منهكون لأننا صدقنا السردية القائلة إن الحرية تعني أن نضطر للاختيار بين أفق لا محدود وضاغط من الإمكانيات. نُسينا أن هذا الخيار نفسه يقيدنا في عجلة إنتاجية شرهة، قائمة على التوتر والمراقبة والإنجاز، يُرغموننا أن نتأقلم معها – باسم المرونة.

إنها ليست مجرد حالة نفسية أو طبية، بل حالة وجودية (أنطولوجية) تفسر شعورنا بالإنهاك، وخيبة الأمل، والحزن إزاء حياتنا العادية. ومن هنا أطرح مفهوم "الإرهاق البنيوي": إنه ليس مرضًا، بل كسر صامت تولّده أوامر تجبرنا على الاحتمال والطاعة والامتثال.

لم يعد الذهاب إلى العلاج النفسي كافيًا، لأن العلاج غالبًا يساعد الإنسان على التكيف مع واقع معيب بدلًا من تغييره. نحن بحاجة إلى زلزلة مجتمعية واعية تجعلنا نفكر لا في الأحداث فقط ("ما الذي يحدث؟")، ولا حتى في آثارها ("لماذا نشعر هكذا؟")، بل في أصل الواقع نفسه: ما الذي يجعل ما يحدث ممكنًا؟

هذا الإرهاق البنيوي أشبه بعَرَض بلا مرض، حزن بلا سبب ظاهر. أعتقد أنه يعود إلى حداد لم نكمله بعد: إنه اختفاء ما هو خالد. على مر التاريخ، ظل الإنسان مفتونًا بما يتجاوز الفناء: بالسماء، بالبحر، بالخلود. أما اليوم، فقد أُخضعت أجسادنا لإملاءات "التحمل" و"المرونة"، وسُرقت منا القدرة على التوجه إلى ما يسمو على قيودنا. صارت حياتنا أسيرة فراغ تافه، تسلية استهلاكية، ومنطق إنتاجي بلا معنى.

لكن ثمة شيء في داخلنا يرفض أن تختزل الحياة في دورة الاستهلاك والسرعة والجدوى. نحن نحسّ بفقدان الخالد، ونعاني من نوستالجيا المطلق (كما سماها الشاعر نوفاليس). كتبت ماريا ثامبرانو: "بينما تمتلئ الحياة بالأدوات التقنية والعجائب الميكانيكية، تبقى الروح والقلب فارغين، وتُستعبد الساعات بفراغ زمن ميت، حتى يستولي الفراغ على الحياة."

في النهاية، نحن نتوق – ربما بلا وعي – إلى ما لا يذبل ولا يفنى. نتوق إلى الجمال، إلى الخلود، إلى مجتمع يعترف بأن الآخر ليس "آخر" بل هو نحن في الجوهر، كما قال أفلوطين: "النفوس كلها واحدة".

لقد دُرِّبنا على العيش كأن كل شيء له تاريخ انتهاء: المشاعر، الروابط، حتى الكلمات. لكن ما يجعلنا بشرًا، ما يربطنا ويمنع عزلتنا، هو ذاك الحنين إلى المطلق، إلى ما لا يشيخ. ومن هنا، علينا أن نحرس ونحافظ على ما هو خالد فينا، لأنه وحده ما يمنحنا الحرية والجذور.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.