كوثر الأربش
تشهد المملكة العربية السعودية تحولًا لافتًا في سياساتها المتعلقة بسوق العمل والهجرة، إذ بدأت بإعادة صياغة الإطار القانوني والاقتصادي الذي يحكم علاقة العمالة الوافدة بالمؤسسات المحلية والدولة. في خطوة وُصفت بأنها تاريخية، ألغت المملكة نظام الكفالة الذي ظل قائمًا لما يقارب نصف قرن، فاتحةً بذلك بابًا واسعًا لإصلاحات تمسّ بنية سوق العمل وحقوق العمال الأجانب، وتنسجم مع توجهات رؤية السعودية 2030 التي تسعى إلى بناء اقتصاد أكثر انفتاحًا وتنافسية.
لقد كان نظام الكفالة أحد أبرز ملامح سوق العمل السعودي لعقود طويلة، إذ منح أصحاب العمل سلطة كبيرة على العمالة الأجنبية، بدءًا من دخولهم البلاد وحتى مغادرتهم. ومع أن النظام ساهم في تنظيم تدفق العمالة في فترة ازدهار الاقتصاد النفطي، إلا أنه واجه انتقادات واسعة بسبب القيود التي فرضها على حرية التنقل والعمل، إضافة إلى ما رافقه أحيانًا من استغلال أو ظروف عمل غير عادلة. ومع تزايد الحاجة إلى جذب الكفاءات الأجنبية والاستثمارات الدولية، أدركت المملكة أن استمرار هذا النظام لم يعد ينسجم مع أهدافها التنموية الحديثة، ولا مع صورتها التي تسعى لترسيخها كدولة رائدة في المنطقة في مجالات الإصلاح والابتكار والحوكمة.
الإصلاح الجديد الذي أعلنت عنه وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية يتيح للعامل الأجنبي حرية التنقل الوظيفي دون الحاجة إلى موافقة صاحب العمل، كما يمنحه إمكانية مغادرة المملكة أو العودة إليها بعد انتهاء العقد دون قيود الكفيل. هذه الخطوة تعزز مناخ الثقة في سوق العمل وتخلق بيئة أكثر عدالة وشفافية، كما تشجّع المستثمرين الأجانب الذين ينظرون إلى استقرار سوق العمل كعامل رئيسي في قرارهم بالاستثمار داخل المملكة.
لكن هذه الإصلاحات، رغم أهميتها، تواجه تحديات واقعية تتعلق بالتنفيذ والمراقبة. فالتغيير التشريعي لا يكتمل إلا بترسيخ ثقافة جديدة في بيئة العمل، قوامها احترام الحقوق والمسؤوليات المتبادلة بين العامل وصاحب العمل. كما أن التحول يحتاج إلى أنظمة رقابية فعّالة تضمن تطبيق القوانين بعدالة، وتمنع أي ممارسات قد تفرغ الإصلاح من مضمونه. إضافة إلى ذلك، تبقى قضية التوازن بين حماية حقوق العمالة الوافدة والحفاظ على مصالح أصحاب الأعمال المحليين من أبرز القضايا التي تتطلب معالجة دقيقة وحوارًا مجتمعيًا واقتصاديًا مستمرًا.
من زاوية أخرى، يعكس هذا السعي الحثيث للملكة لتحسين واقع الإنسان والعمل سواء كان مقيماً أو مواطناً، خاصة في ظل سعيها إلى تنويع مصادر الدخل الوطني، وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، واستضافة فعاليات عالمية كبرى تتطلب التزامًا بمعايير العمل الدولية. فالإصلاحات في سوق العمل ليست فقط مسألة داخلية، بل جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز مكانة المملكة كقوة اقتصادية مستقرة ومؤثرة.
إن ما تقوم به المملكة اليوم يمثل انتقالًا من مرحلة التنظيم التقليدي لسوق العمل إلى مرحلة أكثر نضجًا ومرونة، حيث يصبح الإنسان - سواء كان مواطنًا أو وافدًا - محور التنمية وأساس نجاحها. وإذا ما تمكّنت الدولة من الموازنة بين الإصلاح القانوني والتطبيق العملي، وبين الجاذبية الاقتصادية والحماية الاجتماعية، فإنها ستنجح في بناء نموذج جديد لسوق العمل الخليجي، يقوم على العدالة والاستدامة والتنافسية. وفي هذا السياق، يصبح إلغاء نظام الكفالة ليس مجرد تغيير في القوانين، بل إعلان عن عهد جديد من الإصلاحات التي تُعيد تعريف العلاقة بين التنمية والإنسان في المملكة العربية السعودية.

