: آخر تحديث

الإرهاب والإعمار

2
2
2

تغرق غزة اليوم في مشهد من الدمار والركام، مشهد يعيد الأسئلة الكبرى إلى الواجهة حول من يتحمّل المسؤولية عن كل هذا الخراب، ومن يدفع الثمن الأخلاقي والمادي لحروبٍ متكررةٍ تُدار من خارج حدودها. حيث تشير التقديرات الأممية إلى أنّ تكلفة إعادة إعمار القطاع تتجاوز السبعين مليار دولار، وهي أرقام تليق بحربٍ عالميةٍ لا بنزاعٍ تمارسه جماعةٌ إرهابية محلية حولت حياة المدنيين إلى جحيمٍ دائم، وفيما يعتقد كثير من المراقبين، فإنّ العدالة تقتضي أن تدفع الدول التي دعمت الإرهاب وتموّل أدواته فاتورة الدمار، لا أن يُطلب من الآخرين جبر الخراب الذي لم يشاركوا في صنعه.

إنّ حركة حماس، المصنفة دولياً منظمة إرهابية من قِبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا وعدة دولٍ أخرى، تمثل نموذجاً صارخاً لكيف يمكن للتطرف أن يرتدي عباءة الدين والمظلومية الكاذبة ليمارس من خلالها أبشع أشكال القتل والتدمير. هذه الحركة التي لا تتقن سوى لغة الدم، باتت أداةً بيد دولٍ إقليميةٍ وجدت في الفوضى وسيلةً لتوسيع نفوذها على حساب استقرار الشرق الأوسط.

وفيما أرى، فإنّ القاعدة الأولى لأي نقاشٍ عقلاني حول الإعمار تتمثّل في تحديد المسؤول؛ ومن الواضح أن إيران تظل الراعي الأول لهذه المنظومات الإرهابية عبر دعمٍ مالي وتسليحي وفكريٍ متواصل، وقد بات واضحاً للعيان أن الهدف ليس دعم الفلسطينيين بقدر ما هو تحويلهم إلى وقودٍ لمشاريع التوسع ونشر الفوضى. وهذه المسؤولية لا تقل عنها الدول الإقليمية التي يغيب فيها القرار الوطني وتسيطر عليها المليشيات المرتبطة عقائدياً بذات الدوائر الإرهابية التي تزرع الدمار تحت شعاراتٍ توظيفيةٍ وخطاباتٍ تعبويّةٍ جوفاء.

كما يرى الخبراء أن هنالك دولاً إقليمية أخرى تضخ دعماً إعلامياً ومعنوياً لهذه التنظيمات، فتُروّج في منصاتها لخطاب العنف وتغذّي الحرب النفسية ضد دول الاعتدال. وهذه الدول الاقليمية ـ التي جعلت من المنابر والفضائيات أدواتٍ لتبرير الدم ـ تتحمل مسؤوليةً كاملةً عن استمرار ثقافة التحريض التي تُنتج الموت ولا تعرف للسلام طريقاً. وهي، برصيدها المالي والاقتصادي، كفيلة بتحمل كل تبعات سياساتها، لأنها ليست مجرد داعم خطابي، بل شريك فعلي في إشعال الحروب عبر الكلمة والصورة والتمويل غير المباشر.

وفي الحقيقة، كما ترى المراكز البحثية الغربية، فإنّ الدورة التاريخية في غزة تتكرّر باستمرار الحرب، فالدمار، فالإعمار، ثم العودة إلى الحرب من جديد. وكل مرة تُفتح صناديق المانحين الخليجين لتغطية تكاليف إعمار ما دمّره الإرهاب، مع أنّ المنطق يفرض أن تكون الدول التي رعَت هذه التنظيمات الإرهابية هي المموّل الأول لإعادة البناء، فالإعمار جزء من الفاتورة لا يمكن فصله عن المسؤولية السياسية والأخلاقية.

وفيما أرى، فإنّ دول الخليج ليست معنية بدفع الثمن في كل مرة يُشعل فيها الإرهاب حرباً جديدة. فمن غير المقبول ولا المعقول أن تتحول هذه الدول إلى صرّافٍ مفتوحٍ للمنطقة، تُدفع من أموالها مليارات الدورات المدمّرة، بينما تتفرّج الدول الراعية للارهاب وللفوضى على الأنقاض التي ساهمت في خلقها. لا يجوز أن تظل صورة دول الخليج مرهونة بأنها دوماً هي المموّل، حتى حين لا تكون هي الفاعل أو المتسبب.

العدالة الحقيقية لا تتحقق بترميم الجدران بل بتعرية المجرمين الذين قادوا إلى انهيارها، وإذا كانت إيران ومعها بعض الدول الإقليمية قد اختارت أن تضع بيضها في سلال التنظيمات الإرهابية، فهي من يجب أن يتحمل تبعات خياراته هذه حتى آخر لبنةٍ في الإعمار، وعلى المجتمع الدولي أن يتوقف عن مطالبة الدول المعتدلة بتحمل أعباء مشروعاتٍ مريضةٍ وظّفت الدين والسياسة لتدمير الإقليم.

وبلا شك، كما يؤكد المحللون، فإنّ استمرار اعتماد المجتمع الدولي على أموال الدول الخليجية لمعالجة نتائج الإرهاب هو تشجيعٌ غير مباشر على تكرار المأساة. فطالما أنّ ممولي الدمار يدركون أن ثمّة مَن سيعيد البناء عنهم، فلن يتوقفوا عن إشعال الحروب. إنّ وقف هذا الدور العبثي يتطلّب قراراً حازماً يقوم على مبدأ من دعم الإرهاب يتحمل إعادة البناء، ومن رعى الخراب يدفع ثمن الإصلاح.

وفي النهاية، أعتقد أنّ الحل ليس في ضخ مزيدٍ من الأموال بقدر ما هو في إعادة رسم معادلةٍ جديدة تتحمّل فيها الدول الإقليمية الداعمة للإرهاب كافة تبعات أفعالها. فمن يغذي العنف لا يمكن أن يتنصّل من دمار نتائجه، ومن يشيع ثقافة الدم لا يُنتظر منه بناء حياة. إنّ من أشعل الحرائق عليه أن يطفئها، وهذه قاعدة أخلاقية وسياسية لو التزم بها العالم لتغيّر وجه الشرق الأوسط ولأطفئت نارٌ طال اشتعالها، ولكن لاحياة لمن تنادي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.