: آخر تحديث

أعراق قلقة: الأقباط

1
1
1

حتى نهاية السبعينيَّات من القرن الماضي، كان المجتمع المصري متماسكًا بفضل عوامل كثيرة، منها الطابع المسالم للأقباط، ومنها ثقافة الإسلام الصوفي الهادئ التي ظلت سائدة في المجتمع المصري، حيث كان المسلمون المصريون، أو أغلبهم، أتباعًا لفرق صوفية عديدة ــ ومعظمها كان وافدًا إلينا من شمال أفريقيا ــ وهذه الفرق أو الطرق غلبت عليها ثقافة السماحة والتدين الشعبي البسيط. ولم يكن العنف اللفظي والتعصب الطائفي والعرقي ومظاهر الفرز والتمييز ظاهرة غالبة في المجتمع المصري حتى مطلع الثمانينيَّات.

عامل آخر كان النهر، فالناس منشغلون بأخطاره في موسم فيضانه، ومنشغلون أكثر بزراعة ضفافه في موسم انحساره، ثم يأتي موسم الحصاد حيث تعمّ الجميع مظاهر السعادة والفرح. عامل أخير كان تأثيره لا يقلّ أهمية في استقرار المجتمع المصري، وهو وجود عائلات كبيرة وقبائل وبيوتات ثرية من المسلمين والمسيحيين، كان وجهاؤها وكبارها وأعيانها لهم سطوتهم ونفوذهم على أتباعهم ومنتسبيهم، وبالطبع كانوا هم العمد والمشايخ لكلّ هذه الأنحاء.

وفي هذا السياق، لا ننسى أنَّ الأقباط ظلوا أكثريَّة عددية حتى أوائل القرن التاسع عشر، وفي هذه الحقبة المضيئة من تاريخ المصريين أنجزوا أعظم إنجازاتهم في العصر الحديث، وهو حرب أكتوبر ــ وكنت فيها شاهد عيان فاعل ــ بالإضافة إلى السد العالي وبحيرته العظيمة.

ثم انقلبت حياة المصريين رأسًا على عقب، حيث نضجت الخطة التي رسمها الرئيس الأسبق أنور السادات وبدأت تؤتي أكلها، فقد أعاد جحافل الإخوان والسلفيين الهاربين من بطش الرئيس جمال عبد الناصر، فعادوا مشحونين بتيار وهابي سلفي عنصري ومسلحين بصك أمان مشروط بصفقة مع النظام وتمويل نفطي هادر، ورعاية وتخطيط تولته باقتدار الجمعيتان السلفيتان الأصوليتان اللتان زرعتا الفتنة في كل ربوع مصر ولا زالتا، الجمعية الشرعية وأنصار السنة، حيث أزاحوا من طريقهم بالعنف وأساليب أخرى ثقافة التدين الشعبي الصوفي المسالم واحتلوا عقول البسطاء بإسلام عنيف متصادم مع المجتمع ومع العالم كله.

وبدأ نهر الفرز والتمييز والعنصرية يجري هادرًا مكتسحًا في طريقه كل قيم التعايش والسماحة التي سادت المجتمع المصري على الأقل طيلة قرن مضى. ثم توقف صعود فيضان النهر وتغيرت مسارات المصريين الاجتماعية تغيرًا حادًا، ونشأت طبقة طفيلية جديدة قوامها من استولوا على أراضي طرح النهر بوضع اليد بعد أن انحسر عنها آخر فيضان، وهؤلاء حلوا محل طبقة كبار العائلات التي تآكلت ثرواتهم ومعها نفوذهم بعد قرارات تموز (يوليو) والتأميم.

ثم بدأت مرحلة صدام دامٍ بالأقباط والتحرش بهم برعاية الدولة أو على الأقلّ بتجاهلها، دفع فيه الأقباط ثمنًا باهظًا دماءً وممتلكات، وتمددت دائرة الأحزان لتشمل نصف القرن الماضي بأكمله، فرز وتمييز بالأسماء والأزياء، وبدأت موجة هجرة هي الأكبر في تاريخ الأقباط، وضمر تعدادهم، وخصوصًا بعد أن قلصوا تناسلهم بسبب الخوف والتوجس من المستقبل.

وتستمر متوالية القهر في التوالي الهادر ــ وخصوصًا بعد دور الأقباط المهم في إزاحة نظام حكمهم الفاسد في الثلاثين من حزيران (يونيو) ــ فبعد أن استهلكوا كل وسائل الإرهاب من قتل وتفجير وذبح وتنكيل في نصف القرن الماضي، واكتشفوا أنَّ الأقباط لم تهتز ثقتهم بعقيدتهم بل أصبحوا أقوى وأصلب مما كانوا، فلجأوا إلى وسائل أكثر خسة ونذالة لم تُستعمل في أشد حقب الإظلام والعنصرية، ولا حتى في المجتمعات التي احتضنت هذه التيارات ورعتها وفرختها.

يستدرجون أنثى مراهقة قاصر أو إنسانة تمر بظروف، ويلقون بشباكهم حولها ويسلبونها من أسرتها عنوة، ثم يبدأ مسلسل مقزز على الميديا نعيشه الآن في مصر كل يوم وعلى مدار الساعة وفي كل مكان، فقد تكونت فرق مختصة في طول البلاد وعرضها مهمتها الرئيسة هي صناعة هذه المؤامرات المدفوعة الثمن مقدمًا لكسر هيبة الأقباط وكرامتهم وإذلالهم، بينما تقف الدولة عاجزة عن مواجهة هؤلاء لأغراض مبهمة.

والمؤكد أنَّ الأقباط يدفعون ثمن الوقوف مع الدولة وكيانها الثابت المستقر مع بعض الجور والظلم، ويدفعون أيضًا ثمن ما يعتقد المتطرفون أن الأقباط كانوا وسيظلون عقبة كؤودًا أمام قيام دولة دينية ــ وهي حقيقة ــ لكن المؤكد أيضًا أن الرهان على سكوت الأقباط وخنوعهم على هذه الجرائم الخسيسة ضد الإنسانية هو رهان خاسر، فيوماً، وهو قريب، سيهب الأقباط للدفاع عن وجودهم، وعن ثقافتهم وعقائدهم ومستقبل أجيالهم ومستقبل الوطن كله.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.