عبدالحسين شعبان
باستعادةِ رسالة الجاحظ «الحنين إلى الأوطان»، وهو الجدّ الأقدم للمثقّفين العرب والمُسلمين، نُدرك حقيقةَ المُعاناة الإنسانيّة الفائقة للمُهاجرين والمُهجَّرين والمَنفيّين في عالَمِنا المُعاصِر، بما له علاقة بالمكان والذاكرة من جهة، وبالهويّة والثقافة من جهةٍ أخرى، تلك التي وَجدت صورًا للتعبير عنها في أدب المنفى. وأَعطت العَوْلَمةُ للمنفى ولثقافةِ المَهجر أهميّةً كبيرة، لم يكُن يتمتّع بها من قَبل، وأَصبح في الإمكان تحقيق التواصُل والتفاعُل والتشارُك والتداخُل بين الوطن والمنفى، وبين المُهاجِر وثقافته الأصليّة والثقافات والحضارات المُختلفة والمُتنوّعة. ومع كلّ هذا التطوُّر الهائل يبقى هناك شيء مختلف بين الوطن والمنفى، حيث يَعيش المُهاجِر خارج بيئته وثقافته المجتمعيّة ولغته الأصليّة، حتّى وإن حافَظ عليها، خصوصًا ونحن نتحدّث عن الثقافة العربيّة في المنفى أو المَهجر. في كتابه «تأمّلات المنفيّين» يُعرِّف الصحافي البريطاني جون سمبسون المنفيَّ بالقول «هو الشخص الذي لا يَنسجم مع مُجتمعه»، ثمَّ يُعدِّد ستَّ مجموعاتٍ من المَنفيّين لأسبابٍ سياسيّة أو دينيّة أو قوميّة أو قانونيّة أو نفسانيّة أو اقتصاديّة أو غير ذلك. لقد شَملتِ الهجراتُ العربيّة الأولى (في القَرن التّاسع عشر) مثقّفين كبارًا مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وآخرين، الذين أسّسوا «الرابطة القلميّة» في نيويورك، وقد أقاموا صِلاتٍ مع أدباء الوطن، وكانوا الأكثر شهرةً قياسًا بالأدباء الذين هاجروا إلى أمريكا الجنوبيّة، ولا سيّما إلى البرازيل مثل شفيق المعلوف وإلياس فرحات وجبران سعادة وغيرهم، الذين أسّسوا «العصبة الأندلسية». وكان المنفى آنذاك أقرب إلى «الاختيار» حتّى وإن كان اضْطرارًا فرديًّا، مثل هجرة الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي إلى إيران بَعد فَشَلِ ثورة العشرين في العراق (1920)، وبقائه فيها ثماني سنوات وترجمتِه الشهيرة لرباعيّات عُمر الخيّام، ومن ثمّ انتقاله إلى سوريا ولبنان. أمّا الهجرات اللّاحقة، فكانت أقرب إلى الهجرات الجماعيّة، ولا سيّما الهجرة الفلسطينيّة القسريّة بعد قيام إسرائيل في 15 مايو من العام 1948. وفي منتصف السبعينيّات من القرن الماضي، شهدَ لبنان هجرةً واسعة بسبب الحرب الأهليّة، كما شهدَ العراق، كأنموذجٍ آخر لم يَعرف الهجرة من قَبل، هجراتٍ كبيرة منذ نهاية السبعينيّات وخلال فترة الحرب العراقيّة - الإيرانيّة والحصار الدوليّ المفروض عليه والاحتلال فيما بعد، شملتْ آلاف المُثقّفين، وحصلَ الأمر في سوريا أيضًا، التي شَهدتْ هجرةَ ما يزيد على 6 ملايين إنسان بَعد حركة الاحتجاج في العام (2011) وقمْع النّظام السابق لها. وبحسب فرانسيس فوكوياما أَصبحتِ الهجرةُ ظاهرةً مُقلقة، بل مُهدِّدة للاستقرار العالمي، ومع تعاظُم مشكلات اللّاجئين والمُهاجرين والمَنفّيين، بَرزتِ العديد من الإشكاليّات والمشكلات مثل: الهويّة، ومسألة الاندماج وتفرُّعاتها، وقضيّة الخصوصيّة الثقافيّة والقوميّة والدّينيّة. في ندوةٍ عن الجنسيّة واللّا جنسيّة في جامعة أوكسفورد، تناولَ القاضي يوجين قطران، وهو أوّل قاضٍ فلسطيني عربي في بريطانيا كان قد مضى على وجوده فيها آنذاك نحو خمسة عقود من الزمن، تجربتَهُ المُثيرة في المنفى وازدواجيّة الهويّة والولاء والانتماء والمُواطَنة والجنسيّة، التي تَختلط وتَتقارب وتَتباعد وتؤثِّر، بل وتَضغط على المنفيّ أو المُهاجِر المُبدِع وثقافته وإنتاجه، ولا سيّما على وعيه الذي تتداخلُ فيه أصواتٌ متعددّة. وهو ما بَحثْتُهُ بالتفصيل في كتابي «المثقّف وفقه الأزمة». إنّ حياة المُثقّفين المنفيّين، ولا سيّما الألمان خلال الحرب العالميّة الثانية، وقَبلهم المُهاجرون الروس في العشرينيّات، والمُهاجرون الإيرانيّون واليونانيّون في أواخر الأربعينيّات والخمسينيّات، وفي السبعينيّات الشيليّون، تَعكس الهواجسَ الدائمة والهمومَ والشكوكَ والانكسارات، وهذه كلّها تُمثِّل حياةَ المُثقّفين المُهاجرين في كلِّ مكان: البحث عن وثيقة، جواز سفر، مكان آمن، الابتعاد عن الاحتكاك برجالات السلطة ومؤسّساتها، تحاشي المشكوك بأمرهم، الدعايات والإشاعات المبثوثة في كلّ مكان، جَدَل الهوّيات أو الهوّيات المُتعدّدة، المتفاعلة، المُختلفة والمؤتلفة، وما تُسبّبه أحيانًا من تمزّقات، ولا سيّما للجيل الثاني من المُهاجرين. ولعلّ خَير مَن عبّر عن هذه الحالة من الصراع والتناقُض والتألُّق هو إدوارد سعيد في كتابه «خارج المكان»، الذي سجَّل حياتَهُ من خلال العلاقة المركّبة والمزدوجة بين الوطن والمنفى. ومثّل «خارج المكان» جِسرًا بين ماضٍ لا يُمكن أن يُنسى وبين حاضرٍ لا يُمكن أن يدوم، وبينهما صور وانعكاسات وأحداث ووقائع ومؤامرات وآمال وحروب، ولكنّ الذاكرة تظلّ قائمة وكأنّها تعيش واقعًا هو استمرار بحثها عن هوّية ومكان وأرض ووطن مسلوب، لعلّها الهويّة اللّقاحيّة على حدّ تعبير الباحث التراثي هادي العلوي، الذي ظلَّ يُردِّد أنّه سليل الحضارتَيْن الصوفيّة (العربيّة - الإسلاميّة) والتاويّة (الصينيّة)، ولا سيّما انتسابه إلى لاوتسه مثلما هو مُنتسب إلى الحلاّج. لم يكن إدوارد سعيد بعيدًا عن جبرا إبراهيم جبرا حين تحدّث في «البئر الأولى» عن نشأة الطفل والتشكّل الأوّل لذاكرته وما استقرّ فيها من تفاصيل، ولم يكن من الممكن محوها أو التجاوز عليها، فقد حُفرت في قاع الذاكرة وهي ما لا يمكن إهماله. في حديثٍ خاصّ مع الشاعر الكبير الجواهري، سألته عن المنفى: وماذا كان هناك يا أبا فرات؟ فردوس الحريّة أم زمهرير الغربة؟ وبَعد فترةِ تأمُّل، سَحَبَ نَفَسًا عميقًا من سيجارته وأَجاب: الاثنان معًا.. إيّ والله الاثنان معًا. لم يَستطع روائيٌّ كبيرٌ مِثل غائب طعمة فرمان، الذي عاشَ المنفى طيلة أكثر من ثلاثة عقود أن يكتبَ روايةً عن المنفى. ظلَّ هاجِسُهُ الوطن، حيث وُلد وترعرع وعاش شبابه الأوّل، وظلّت شخصيّاته ذات ملامح بغداديّة حادّة أحيانًا. لم يتمكّن المنفى منه، على الرّغم من أنّه أعطاه فضاءَ الحريّة. وعلى العكس منه كان برهان الخطيب، الذي عاشَ في المنفى أكثر من ثلاثة عقود في موسكو ودمشق واستكهولم، فقد أجابَ عن سؤال لمجلّة «الوطن العربي» بقوله: للمهجّر أو للمُغترَب وجهان ظاهرٌ وخفيّ؛ الأوّل مُبهرج والثاني كالِح. حياة المُهجَّر تَكشف لي عن وجهٍ شنيعٍ أحيانًا، وهناك صعوبات وضغوط حاوَلت كسري. ويضيف: أمّا التأقلم والذوبان أو الصمود أمام الصعوبات والضغوط ومُجابَهة احتمال التحطُّم... الهَرب من فجيعة الوطن، فلا ينبغي أن يَجعلنا نَسقط في فجيعة الغُربة. في حوارٍ أداره المُنتدى الأورومتوسّطي، وحَضرته نخبةٌ مُتميّزة من المثقّفين، قال أسامة الشربيني في معرض مُعالَجته ظاهرة ازدواجيّة الهويّة: حين أكون في المغرب أشعر بأنّني مَغربيّ وعربيّ ومُسلم، وحين أكون في بلجيكا أشعر بأنّني بلجيكيّ وأوروبيّ وجزءٌ من الثقافة الغربيّة. وهنا يُثار سؤالٌ مشروع: وهل المكان هو الذي يُحدِّد الهويّة؟ أم أنّ الهويّة التي تكوَّنت وترسَّخت واكتُسبت، تَظهر على نحوٍ جليّ في بيئتها الحقيقيّة، حيث المكان والاستمرار والتفاعُل؟ وإذا كانت هناك من معاناةٍ للثقافة العربيّة في المَهجر، وخصوصًا للمثقّفين، فهو ما يُمكن أن نتمثّله من خلال بيتَيْن من شعر الحلّاج كان يُردِّدهما وهو يُواجِه السيف بعد رحلةِ نفيٍ طويلة بقوله: طلبتُ المستقرّ بكلّ أرضٍ فلم أرَ لي بأرضٍ مُستقَرّا وذقتُ من الزمان وذاقَ منّي وجدتُ مذاقَهُ حلوًا ومُرّا فقد وُلد الحلّاج بحسب ما يَروي المؤرِّخ الطبري عنه في مدينة البيضاء في اليمن (بحسب ابنه أحمد) وهاجَر منها إلى بلدة «تستر»، ثمّ إلى البصرة؛ ثمّ رَحَلَ إلى بغداد، ومنها عادَ إلى «تستر» ثمّ خراسان، حيث غابَ هناك 5 سنوات مُطارَدًا ومنها إلى «كرمان»، وبَعدها إلى الأحواز، حيث انتقلَ إلى البصرة، ومنها إلى مكّة، وعادَ إلى البصرة، ومن البصرة إلى بغداد، وقد سبقته رواياتٌ عن زندقته المزعومة، فهَجرها إلى حيث واجَهَ حتفه. إنّ هوّية الحلّاج الرئيسة هي هويّة اللّاجئ، والحريّة هي إحدى تجلّيات هويّة اللّاجئ التي تَظهر في فضائها ألوانُ ثقافاتٍ وتواصُلُ حضارات وعاداتُ شعوبٍ وبَشَر. فالحريّة إذن هي الشرط الأوّل للّاجئ والمُهاجِر والمَنفيّ، وهي القاعدة التي تؤسَّس عليها الهويّةُ اللّاحقة، ذات البُعد الإنسانيّ، والتي تُمثِّل المُشتركات الإنسانيّة. رحلةُ المنفى كَتب الشاعرُ العراقيّ عبدالوهّاب البيّاتي في منفاه الخمسينيّ والستّينيّ قصائدَ مُفعَمة بغنائيّةٍ رقيقة وصوفيّةٍ عقلانيّة متآلفة، راسمًا صورًا أليفة بألوانٍ مُنسجِمة، ولعلّ ذلك أراده تواصُلًا مع الوطن أكثر من كونه تعبيرًا عن الفقْد واللّوعة والحُزن، وهذا ما ظَهَرَ في «النور يأتي من غرناطة» وفي «بستان عائشة» وهو من أجمل دواوينه، وكذلك صوفيّاته عن ابن عربي. وعلى نحوٍ مُختلف كتبَ الشاعرُ سعدي يوسف عن منفاه الأوّل في الجزائر، وخصوصًا في مجموعته الشعرية «الأخضر بن يوسف» حين حَضر المنفى باعتباره واقعًا ظلّ من خلاله يَتهجّى الوطن. أمّا مظفر النوّاب، فقد كان يَجِدُ المنفى كالحبّ «يُسافر في كلّ قطار أركبه، في كلّ العربات أراه». لعلّي هنا أتوقّف عند رواية الكاتب والروائي الفلسطيني غسّان كنفاني «رجال في الشمس» في الحديث «عن رحلة النفي أو الهجرة أو اللّجوء». كيف قُدّر لهؤلاء الرجال الذين بقوا في الصهريج ينتظرون موتهم ببطء ويأس وحتّى من دون حراك، فبدلًا من فتْح باب الفرج، انفتحَ لهم باب القبر بكلّ صمته وظلامه. وبإيحاء كنفاني الذي كان مونولوجه الداخليّ عالي النبرة، يُخاطِب هؤلاء الرجال، لماذا لم تَصرخوا؟ لماذا لم تدقّوا كي يسمعكم مَن في الخارج؟ مع الاستقرار المؤقّت والاندماج الجزئيّ في المُجتمع الجديد، تَبدأ مشكلات المُهاجرين والمَنفيّين الحقيقيّة، وتظلّ هواجس الروائيّ الألمانيّ أريش ماريا ريمارك قائمة في «ليلة لشبونة»، فالمُهاجِر كثير الشكّ، مُنغلق، يُثير ريبةَ أهل البلاد الأصليّين أحيانًا، ويتعامل مع العالَم الخارجيّ في الكثير من الأحيان بمنظارٍ أمنيّ، ويُعاني من فقدان هويّته الأصليّة، وعدم قدرته على التكيُّف مع الهويّة الجديدة. وحتّى لو حَصَلَ الأديبُ المَنفيّ على جنسيّة البلد المُستقبِل (المُضيف) بعد سنواتٍ من إقامته فيه، فإنّه يَظلّ يُعاني من ازدواجيّة الجنسيّة فيما بعد، ولا سيّما أنّها في إحدى تعبيراتها تُواجه ازدواجيّة المُواطَنة والجنسيّة أحيانًا، وهذه تُثير نَوعًا مُلتبسًا من ازدواجيّة الهويّة. وقد سبقَ لأمين معلوف الروائيّ اللّبنانيّ العالميّ الذي مُنح أعلى وسامٍ فرنسي، أن تَحدّث عن موضوعِ الهويّة في كتابة «الهويّات القاتلة»، وقد مثّل هو شخصيًّا هذا البُعد المتحرّك في الهويّة بحمْله الثقافتَيْن العربيّة والفرنسيّة، وقدرته على أن يكون جِسرًا للتواصُل، من دون أن يعني ذلك تجاوُز المُعاناة الإنسانيّة الفائقة، ولا سيّما في التعبير عن تلك الهويّات المزدوجة، بل المتعدّدة والمتنوّعة. في كتابه «موسيقى الحوت الأزرق» يُناقِش أدونيس فكرةَ الهويّة، ويَستهلّ حديثَه بالعبارة القرآنيّة التي تُضيء بقِدمِها نفسه، حداثَتَنا نفسها على حدّ تعبيره، وأعني بها التعارُف، أي الحركة بين الانفصال والاتّصال في آن، من خلال «رؤية الذّات، خارج الأهواء»، وخصوصًا الأيديولوجيّة، ويُمكن أن نضيف الدّينيّة والقوميّة وغيرها، بمعايشة الآخر داخل حركته العقليّة ذاتها، في لغته وابداعاته وحياته اليوميّة. فالهويّة ليست سرمديّة، أيّ أنّها ليست نهائيّة أو كاملة أو مُغلَقة، إنّها مفتوحة وغير تماميّة، أي قابلة للإضافة والحذْف والتأثّر والتأثير، وهي أقرب إلى أرخبيلٍ مفتوح من بِركة راكدة. وإذا كانت عناصر الهويّة الأساسيّة تقوم على اللّغة والثقافة والتاريخ والدّين، وهذه أقرب إلى الثبات، وإن كانت ليست ساكنة، فإنّ العادات والتقاليد والآداب والفنون وطريقة العَيش والمَلبس والمأكل كلّها قابلة للتغيير. والمَنفيّ والمُهجَّر والمُهاجِر، ولا سيّما الأديب، أكثر حساسيّة وتفاعلًا مع محيطه من غيره، سواء إزاء الهويّة القديمة أم الهويّة الجديدة. *مفكّر وأكاديميّ من العراق * ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية الصادرة عن مؤسسة الفكر العربيالهوية وأدب المنفى
مواضيع ذات صلة