مثّلت السنوات الثلاث الماضية نقطة تحوّل مهولة أثرت على التوازن الإقليمي بالمنطقة. زلزال مدمّر لم يكن متقناً في بدايته، ولا يستطيع أحد التنبؤ بشكل نهايته.
جولات من المعارك الطاحنة والتحوّلات المتسارعة أربكت المشهد، وأرهقت الدول سياسياً وتنموياً وإنسانياً. منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية مع «حماس» تمكّنت دول الاعتدال، وعلى رأسها السعودية والإمارات، من صياغة سبل سلميّة بغية ردم هذا الانهيار.
بادرت كل من قطر ومصر، كلٌّ على طريقته، من أجل تبويب هذه المآسي في الإقليم عبر التفاوض، وحتى الآن كل الصيغ لم تمر عن وقف كامل للحرب.
لقد توازنت دول الخليج بين إدارة العمل السياسي لإطفاء الحرائق والاستمرار في الجهود التنموية في بلدانها. صاغ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان السياسة السعودية منذ البداية؛ حلّ الدولتين، ووقف العدوان، وإكمال مبادرات التفاوض. بعد الضربة الإسرائيلية على الدوحة تكاتفت دول الخليج من أجل الحدّ مما يمكن تسميته الاستهتار بسيادات الدول، الذي لا بد له أن يُلجم.
في فلسطين ثمة حل وتعنّت، وكلما غلبَ الإصرار والتكبّر على الواقعية نزفت الدماء، وزادت التكلفة الإنسانية، وتبخّرت احتمالات إنجاز حلٍّ يرضي الطرفين.
ركّزت الدول على الجوانب السياسية؛ أن تقوم دولة فلسطينية مترابطة بقيادةٍ باسطة لهيمنتها على أرضها، وأن تطوى الخلافات المدمّرة القديمة التي امتزج فيها السياسي بالشخصي، ليبدأ العمل على الإعمار، ورسم أسس لتنمية مستدامة للإنسان الفلسطيني ومستقبله في أرضه ودولته. وهذه ليست معجزة وإنما أمرها أسهل مما يتوقع البعض، ولكن بشرط تغليب الواقعية السياسية والتوجّه نحو قيم التفاوض وصيغ الحوار، فالحرب إن لم تلد حلّاً فإنها ستصيب كل الأطراف بالانهيار والدمار. وظيفة الحروب هي تنويع الحلول، وتحسين ما تيسّر من الواقع، والخروج بأقل الخسائر وفي الوقت المناسب.
في سوريا، ثمة زيارات تنموية وإغاثية قامت بها السعودية، وعقود استثمارية مليارية، وهذه بوابة للخروج من نفق الحرب الأهلية السورية الطاحنة التي دمّرت معظم سوريا. الواقعية السياسية السورية يمكن البناء عليها ما دامت الأفكار الرئيسية مشتركة على كل المستويات السياسية أو الفكرية أو التنموية، بل إن الحالة السوريّة، رغم تحوّلها السريع، لن تحلّ كل موضوعاتها في يوم وليلة، ولكن الوثب نحو المبادرات السياسية الصادقة يمكّن البلد من التغيّر الكامل والانتقال نحو دولة مدنيّة تنبذ العصبيات، وترفض الآيديولوجيات، وتتجاوز الأفكار القديمة والمتطرفة ضد الآخر، بل تحاربها من أجل أمن المجتمع بكل أطيافه وأديانه وأقلياته.
في لبنان يبدو الوضع أكثر تعقيداً؛ ثمة مبادرات صادقة من دول التنمية الصاعدة بأن يقترب لبنان إلى أفكار المدنيّة والتنمية بدلاً من اختزال كل العقيدة السياسية للدولة بأفكار وضعها حزب بسلاح منفلتٍ خارج سيطرة الدولة. أميركا ومعها دول التنمية الصاعدة تريد لهذه الدولة أن تقف على قدميها بعد نصف قرن من الفساد وسيطرة الميليشيات وتغذية النزاعات، وصفقات المحاصصة والتواطؤ على إسقاط الحكومات. ثمة مناورات سياسية داخلية هدفها تثبيط العزم الأممي والإقليمي وتيئيسه من أي تقدمٍ مأمول. الكرة الآن في ملعب الثنائي الشيعي إن أراد تحرير لبنان من هيمنة السلاح، بغية منح الناس حريّاتهم في الحياة الدنيوية العادية بدلاً من حبسهم رهائن ودروعاً بشريّة يذهب دمهم سدى مع أي حرب عبثيّة.
إن الفرص الجادة اليوم لها أمدها، والأمم مشغولةٌ بأعمالها وناسها، وإن لم يُساعد الساسة اللبنانيون أنفسهم فإنهم يغامرون بشعبهم ودولتهم، والسؤال الذي يرد على لسان الإنسان العادي: لماذا لا يستفيد لبنان من الواقعية السوريّة التي جلبت في بضعة أشهر أكثر من ثلاثين مليار دولار للمشروعات والتنمية والاستثمار؟!
الخلاصة؛ إن دول الإقليم تسعى جاهدة من أجل رسم التوازن المتكامل لضبط هذا الانفلات، ومساعدة الدول الجادّة. ثمة مواقف صارمة تجاه ترسيخ الأمن الخليجي والإقليمي، وهذا أمرٌ محسوم؛ ولقاء الأمير محمد بن سلمان برئيس وزراء باكستان محمد شهباز شريف، وتوقيع اتفاقية الدفاع العسكري المشترك أوضح مثال على ذلك.