تابعت فقرة مهمة ببرنامج "تريندنغ" على قناة "BBC" عربي، حول الصحة والجدل الذي أثاره الفيلم الإسرائيلي البحر، الفائز بجائزة أفضل فيلم في الأوسكار الإسرائيلية، والمرشح الرئيسي لتمثيل الكيان الإسرائيلي في مهرجان الأوسكار الدولي، وهذ الضجة بسبب أن الفيلم يتناول حكاية طفل فلسطيني يُمنع من رؤية البحر بسبب الحواجز العسكرية، فقرر مواجهة المستحيل ليحقق حلمه البسيط!
الصدمة ليست في مضمون الفيلم فقط، بل في أن العمل بتمويل ودعم من وزارة الثقافة الإسرائيلية نفسها، مما جعل وقع المفاجأة مضاعفًا حين تحوّل الدعم الرسمي إلى أداة لتعرية وكشف ما لا تريد المؤسسة السياسية أن يراه العالم، وزير الثقافة الإسرائيلي عبّر عن غضبه لأنه من الغباء أن تمول وزارته فيلماً يفضح الكيان الإسرائيلي وتوجهاته، وحتى النواب الإسرائيليين تأثروا وبغضب من رسالة الفيلم، وشنّوا هجومًا واسعًا ضده وضد وزير ثقافتهم، فكشفت هذه الأزمة الثقافية السياسية داخل إسرائيل هشاشة الدعاية الرسمية للكيان الصهيوني أمام صورة إنسانية صادقة.
والتاريخ أمام الضجة التي أحدثها فيلم البحر، تجعلنا أمام حقيقة لا يمكن تغافلها في قدرة الأعمال الفنية الصادقة في التأثير على الحكومات والوضع السياسي داخل الدول، فقد قدّمت أعمال عالمية شواهد حيّة على قوة هذا الفن منها فيلم "فندق رواندا" الذي أنتج عام 2005، الذي صوّر مأساة الإبادة الجماعية في رواندا وفضح صمت العالم وحقق أرباحاً بتلك الفترة تجاوزت مئة مليون ريال، وفيلم "حقول القتل"، الذي أعاد للأذهان مأساة الحرب في كمبوديا، مما يؤكد أن هذه الأمثلة من الأفلام وعبر أحياناً مشهد واحد، قادرة على إحداث أثر يفوق آلاف الكلمات والاجتهادات السياسية!
فيلم البحر ليس الوحيد سينمائياً الذي أثار تفاعلاً عالمياً بلغة السينما عن القضية الفلسطينية والتي كانت حاضرةً بحضور قليل جداً ولكن مؤثر منذ سنوات، حين قدّم هاني أبو أسعد فيلم "الجنة الآن" عام 2005، الذي نقل المأساة الفلسطينية في قلب الأوسكار العالمي لأول مرة، ثم جاء فيلم "عمر" عام "2013" ليجسد مأساة جيل يعيش بين الاحتلال والخيانة، في أعمال فتحت أبواب النقاش العالمي أمام القضية الفلسطينية.
وأمام الضجة التي نعيشها حالياً مع فيلم البحر داخل الكيان الإسرائيلي، نتساءل، لماذا لا تُنتج الدول العربية، أفلامًا مشابهة لفيلم البحر، ولو كانت قصيرة تُترجم وتُعرض على المنصات العالمية؟ ففي زمن الصورة السريعة وتداولها عبر وسائل التواصل، تكفي لقطة واحدة لتبقى في الوجدان وتعيد تشكيل الرأي العام، مع الإشارة بطبيعة الحال للدور السعودي بهذا المجال وعدم تجاهله بدعم أفلام فلسطينية، كدور مهرجان البحر الأحمر السينمائي بجدة بعرض وتموّيل أعمال جريئة تتناول القضية الفلسطينية، منها فيلما "200 متر" و"صالون هدى"، وفتح منصة لدعم مخرجين فلسطينيين وعرب أوصلوا رسائلهم إلى المهرجانات العالمية!
لذلك ومن وجهة نظري إذا استمر التوجه السعودي والعربي في دعم الأفكار التي تسلط الضوء على القضية الفلسطينية، سنجد أن ذلك سيمنحها دوراً محورياً في تسهيل وصولها للعالم، ضمن رؤية أوسع تجعل الثقافة إحدى أدوات قوتها الناعمة، وما يحدث حالياً ونتابعه بدهشة وحماس كبير مع فيلم "البحر" تأكيد عملي على أن الصورة قادرة على فضح الاحتلال، وإبقاء القضية حيّة في ضمير العالم، لأن السينما بأفكار هذه الأفلام ليست ترفًا، بل سلاح وعي، ولغتها الأبلغ والأسرع لإيصال الحقيقة.