الخيل، أيضاً، تبكي، وما أَحَرَّ بكاءها على فرسانها.اقرأ بكاء الخيول على مقتل فَطرْقُل في إلياذة هوميروس «أما جياد أخيل فقد انتبذت من القتال مكاناً قصياً، ووقفت تبكي فَطرْقُل حينما علمت بموته، ولم يقدر أفطميذون أن يحرّكها بالسوط، ولا بلين الكلام، ولا بالوعيد، بل مكثت حيث هي، لا ترجع إلى السفن، ولا تدخل المعركة، وقامت كما يقوم عمود على قبر رجل ميّت. وقد نكّسَت رؤوسها إلى الأرض، وسحّت عيونها قطرات كبيرة من الدمع، وتدلّت أعرافها الطويلة تجرجر على الأرض».وبحسب الإلياذة (ترجمة: عنبرة سلام- الطبعة الأولى 1974)، فإن شخصية أسطورية أخرى (زَفَسْ) رَثَت لحال الخيل الباكية، وقال زفس: «ليس بين كل من يدب على الأرض من هو أكثر ألماً من الإنسان»، لكن الخيل تتألم كالإنسان، وتبكي.كانت عند الروس عادة سيئة تكشف عن ظلم الإنسان للخيل التي كانت قبل وقت قصير في خدمته، إذ يحارب على ظهورها، ويستعرض فنون فروسيته وبطولاته بالسيف والرمح والدرع وهو يسابق بها الرّياح، فإذا تقدّم الحصان في العمر، وأقعده العجز والضعف عن العمل، يطلقون عليه النار ليوفّروا نفقات علفه على خزينة الدولة.ومن أولى روايات الخيل التي عرفها القارئ العربي قبل عشرات السنوات رواية «وداعاً يا غولساري» لجنكيز آيتماتوف، قصة مربي الخيول الشاب تاناباي، وحصانه الشاب أيضاً غولساري في سهوب قيرغيزيا، حيث يقول سياق الرواية إن المؤلف جنكيز آيتماتوف هو نفسه تاناباي، مربي الخيول.ما أكثر الخيل في الشعر العربي، بل في الشعر العالمي كلّه، ذلك أنه ما من حضارة قديمة رسخت جذورها في ذاكرة البشرية إلّا وقامت على الخيل. حروب الشرق والغرب كانت حروب خيل، والكثير من الثقافات انتقلت من مكان إلى آخر على ظهور الخيل.ولكن، ما المناسبة؟ ولكل قصة سبب ومناسبة، وبخاصة قصة الشعر والخيال من الخيل. الصهيل من الخيل، والسبق من الخيل، وكلّها تحيل إلى الشعر.شعراء الماضي فرسان لا يُشَقُّ لهم غبار كما يُقال في المجاز العربي، وكان الفارس العربي لا تكتمل شخصية البطل فيه إلّا إذا كان شاعراً «لا يشق له غبار أيضاً».ومن حصان امرئ القيس، إلى حصان المتنبي، غادر الشعراء وادي عبقر، ولم تعد القصيدة أيقونة لغوية يلقي بها السحرة في آذان قائليها، وإذ بهم سحرة أيضاً، سَحَرة مصنوعون من اللغة.وما أكثر الخيل في الشعر، وما أقلّها في الرواية، كأن قصيدة الحصان أغنية لا تذوب في الرياح، بل هي موسيقى من صهيل.عَمّن تكتب؟ وبأي مناسبة؟ الأرجح أنه لا يكتب، بل يرثي زمناً مديداً جميلاً على البحر البسيط أو على بحر الصهيل.هذا هو الزمن الذي يُكتب فيه الشعر بلا خيول، وقد ترك الفرسان سيوفهم ودروعهم في سوق عكاظ، ثم لا حاجة إلى صهيل، ولا حاجة إلى خيال.زَمَنٌ باردٌ معلّب، يوضع فيه الشعر في العلبة والكبسولة، شيء لا تبكي عليه الخيول، ولا لزوم له.
شعر وخيول ودموع
مواضيع ذات صلة