حسن اليمني
التسجيلات المسربة للرئيس الراحل جمال عبدالناصر فاجأت كثيرين وأصابت اليسارية والثورية وحتى القومية بحالة ارتداد، لكن، هل كان الاتجاه صائبا حين اتبعه العرب بعد رحيله وانتهوا اليوم بابتلاع الكيان المحتل لغزّة وجنوب لبنان وجنوب سوريا، وحتى ضرب القصر الجمهوري في دمشق؟ أنور السادات وريث عبدالناصر حصل على سيناء بشروط، والأردن فقد الضفة الغربية والوصاية على القدس، ومنظمة التحرير الفلسطينية انتهت إلى اغتيال زعيمها وانحسار سلطتها في الحصول على بطاقات الـ(V I P) وكثير من الدول العربية أرغمت على التسليم والتطبيع بلا مقابل مع الكيان المحتل، وكل هذا تم في وعاء القناعة بعدم القدرة على مواجهة الكيان المحتل. شاهد اليوم هيمنة وسيطرة للكيان المحتل على المنطقة العربية وما حولها حتى وصلت الهند شرقا وإثيوبيا جنوبا، وحتى تركيا في الشمال تحاصر بالقواعد الأمريكية والإسرائيلية في قبرص واليونان، مع غياب عربي أرادت السعودية أن تخرجه من مأزقه وتأخذه للمسار الصحيح - الاقتصاد والبناء والتصنيع - ليس إقرارا بالعجز كما ظهر في تسريبات عبدالناصر واتبعه العرب فيما بعد ذلك، ولكن برؤية متقدمة على ذلك وبمنطق طبيعي لا يصطدم مع الواقع ولكن يتعامل معه ويديره، ومع هذا تظهر اجتهادات أطراف عربية تصعب المسار وتعرقله برؤى مختلفة لا تخرج عن كونها اجتهادات تنظر بزوايا مختلفة. هذا التناثر الذي دعمه خروج العراق العربي عن مساره وعوضه ظهور الأصالة في دمشق بعد سقوط النظام البعثي، ومثل بارقة أمل جعل الكيان المحتل في فلسطين يخرج بشكل سافر عن قواعد النظام الدولي بشكل متحدي تدعمه واشنطن أو بالأقل لا تعترض عليه، لا بل إنها تسوّق له في وقت لم يعد بالإمكان قبوله أو هضمه، ومع وجود بوادر فرص وخيارات قد لا تكون بديلة لكنها منافسة وبقوة وقابلة للاستخدام، أقصد الصين القادمة للساحة العالمية في مواجهة الولايات المتحدة الامريكية بما يجعل الرهان في الوسط العربي يبدو أنه في شغل وانشغال لبناء المستقبل بآليات جديدة. تسريب التسجيلات التي نفذها الرئيس السادات فيما بعد كانت بحاجة للتهيئة والاقناع للنظام العربي والتوافق حوله ليضمن حلا عربيا مع الكيان المحتل يمنع ما حدث بعده، وقد كان هذا - بكل أسف أمرا مستحيلا - إما أنه لم يكن كذلك فقد كان واضحا أنه قد فات وقته ولم يكن السلام الأردني والفلسطيني مع الكيان المحتل بعد عقد ونيف من الزمن من اتفاقيةكامب ديفيد إلا عجزا عن رؤية الواقع بشكل مفيد، ومع ذلك تمدد التوافق مع الكيان المحتل لدول عربية أخرى وكأنه إمعان في تأكيد العجز عن الرؤية.
اليوم نحن أمام «إسرائيل الكبرى» سواء بالاحتلال والتوسع أو بالإذعان والتبعية، ولا يعمى عن رؤية ذلك إلا غارق في العجز، خاصة وان الفعل العربي أصبح الأضعف في المنطقة العربية، وحتى الفعل الإيراني بشبكاته في لبنان واليمن وفلسطين زُحزح وأجلي من الساحة، ولا زال العمل جاريا على تفكيكه نهائيا. ظهور هذه التسريبات التسجيلية مع قراءة ما تم من تاريخه حتى اليوم ألا يكفي للمراجعة والقراءة بشكل أكثر وعيا للمصير العربي المشترك، فقد خرجنا من محاولات بناء العداء بين السنة والشيعة، وقلبنا صفحة القومية وتبعثر الموقف العربي بين معالجة الاقتصاد وحماية الحدود وأمن النظام الحاكم، كل هذا يعيدنا الى نقطة البداية حتى ما قبل عام 1948م وظهور الكيان المحتل، العلاقات العربية العربية والتحالفات الدولية والتنافس على زعامة العالم والبناء الداخلي اقتصادي واجتماعي تبدو كلها إشارات تبدل وتحول جبري والزامي للفعل العربي لضيق الخيارات وتلاشي الفرص.
أمريكا تخسر والصين تربح، والدول العربية في معية الدول الإسلامية بدل من العكس في المواجهة مع الصهيونية الإسرائيلية الغربية، هذا ما يجري في العمق تحت أمواج السطح العاتية، والتهديد بحرب هندية باكستانية بعد فشل حرب إيرانية عربية وبعد محاولات متكررة لهدم المسار في تركيا.
كل هذا يظهر مؤشرات ما يرسم للمنطقة بعد ما تم تغييب الفعل العربي الذي يحاول اليوم استعادة تموضعه خارج مسار العجز الذي كشفته التسريبات الصوتية لعبدالناصر وزعماء عرب آخرين قبل أكثر من نصف قرن، ومتجاوزا للإبراهيمية وصفقة القرن (الترامبية)، وربما نهاية لمسار التطبيع المجاني مع الكيان المحتل.