افهم الآن تماماً ما قالت فيرجينيا وولف: "يمكنني فقط أن ألاحظ أن الماضي جميل؛ لأننا لا ندرك المشاعر لحظة حدوثها، إنها تتسع لاحقًا، ولهذا لا نمتلك مشاعر مكتملة تجاه الحاضر، بل فقط تجاه الماضي"، استكمل الحديث عن التأملات الثقافية في باريس؛ حيث تتوقف العين كثيرًا عند تلك المتاحف العديدة التي تمتلئ من أعماق التاريخ: أعمدة رومانية، تماثيل فرعونية، نقوش آشورية، وبرديات يعود عمرها إلى آلاف السنين، لكن ما يشد الانتباه أكثر من القطعة الأثرية ذاتها، هو سؤال لا مفر منه: لماذا بقيت هذه الحضارات؟ ولماذا وصلت آثارها إلينا بكل هذا الوضوح؟ الإجابة برأيي الأقرب للواقع أن تلك الحضارات حرصت على أن تُرى.
سعت تلك الحضارات بوعي أو ربما بدافع الغريزة الجمعية إلى تخليد نفسها عبر أدوات توثيق لا تخضع للتقادم: فن، عمارة، نقش، أدب، وأحيانًا أساطير، في المقابل، نحن اليوم نعيش في زمن الوفرة الرقمية. نوثق كل شيء، نُنتج كميات ضخمة من البيانات، نُدوِّن آنيًّا وبلا توقف، لكن وسط هذه الوفرة، تبرز مخاوف من نوع آخر: هل سيبقى شيء مما ننتجه اليوم؟، وهل سنكون حضارة قابلة للتذكر؟، أم أننا نُسجّل كثيرًا لكننا لا نخلّد شيئًا؟ الفرق بين التوثيق والتخليد ليس في الكم، بل في النية والسردية.
الحضارات القديمة ربطت فنونها بأفكار كبرى: عن الخلود، عن الحب والحرب، عن الإنسان والمصير. أما نحن اليوم حول العالم، فكثير مما ننتجه يرتبط باللحظة: بالصورة السريعة، بالترند الزائل، وبالمنشور القابل للنسيان خلال ساعات. بعد ثلاث مئة عام، سيبحث مؤرخو المستقبل عن أدلة لحياتنا، هل سيجدونها في منشورات التطبيقات؟ في صورنا على منصات التواصل؟ أم سيحتاجون إلى حفريات رقمية لقراءة ما خلفته حضارة القرن الحادي والعشرين من أثر؟
قد يدهشهم أن كل هذه الحياة، بثرائها وتناقضاتها، لم تُخلَّف في رواية كبرى، بل في شظايا معلومات لا تحمل سياقًا جامعًا.
الخلود لا يصنعه التطور، بل المعنى. والمعنى لا يولد من الوفرة، بل من الانتباه، من كتابة الذات بوعي، من السرد الذي يربط بين الخاص والعام، بين الفردي والجمعي، وبين اللحظة والتاريخ، يبقى السؤال المطروح: إذا لم نكتب أنفسنا الآن، من سيكتبنا لاحقًا؟ وربما تكون إجابة ونستون تشرشل هي الأكثر اختصارًا وصدقًا: "سيكون التاريخ لطيفًا معي، لأني أنوي أن أكتبه بنفسي". دمتم بخير