غزة لا تموت بصمت.. منذ أشهر والقطاع الفلسطيني ينهار تحت وطأة الحصار والضربات، في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن الجديد، المجاعة، انهيار النظام الصحي، غياب الماء والدواء، جميعها تحوّلت من تحذيرات دولية إلى واقع يومي موثّق، فيما بدا أن المجتمع الدولي قد فقد -ليس قدرته على التدخل فقط- بل رغبته أيضًا، لم تعد المأساة بحاجة إلى وصف، بل إلى موقف.
ومن بين الأنقاض، خرجت فلسطين مجددًا إلى واجهة السياسة الدولية، لكن هذه المرة لم يكن ظهورها محصورًا في ملفات الأمن، بل كقضية سيادية تتطلب اعترافًا لا تعاطفًا، هذا التحول لم ينبثق من ميدان دبلوماسي مغلق بل من شوارع أوروبا التي شهدت تصاعدًا في الغضب الشعبي، ومن برلمانات باتت ترى أن استمرار «الحياد» هو شراكة ضمنية في صناعة المأساة.
في عام 2024 فتحت دول، مثل: إسبانيا وأيرلندا والنرويج وسلوفينيا، باب اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، الذي لم يكن مفاجئًا بقدر ما كان مؤشرًا على تحول تدريجي في المزاج الأوروبي، غير أن إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يوليو 2025 عن نية بلاده الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين في الجمعية العامة المقبلة للأمم المتحدة، منح القضية وزنًا جديدًا، فرنسا العضو الدائم في مجلس الأمن، والضامن التقليدي لمعادلة التوازن الأوروبي، لم تكن تتحرك هذه المرة وفق حسابات داخلية فقط، بل بدافع من فشل السياسة الدولية في غزة.
اعتراف باريس لم يأتِ نتيجة نضج المفاوضات بل بسبب غيابها، لم يعد ممكناً إقناع الرأي العام العالمي بأن ما يجري في غزة جزء من «تعقيدات الشرق الأوسط»، فالمجازر، كما تقول الصور، لا تحتاج إلى تحليل سياقي. وماكرون بتحركه لم يكسر الإجماع الأوروبي فحسب، بل أعاد تعريف مسؤولية أوروبا في الملف الفلسطيني، بوصفها ليست مجرد وسيط بل جزءًا من البنية السياسية التي سمحت بإدامة الاحتلال.
الدولة الفلسطينية، التي طالما اعتُبرت فكرة مؤجلة أو ورقة تفاوض، تكتسب اليوم شرعيتها من خارج طاولة المفاوضات، الاعتراف بها لم يعد رفاهًا دبلوماسيًا، بل تصحيحًا لمسار أخلاقي منهار، وإذا كانت فرنسا قد اتخذت الخطوة، فإن الكرة الآن في ملعب عواصم أخرى ما زالت توازن بين مصالحها وتحالفاتها ومبادئها المُعلّقة.
فلسطين دولة قادمة لأنها باتت أكبر من أن تختزل في ملف تفاوضي أو تدار كأزمة دائمة، قادمة لأنها أثبتت وجودها رغم محاولات الإلغاء، ورغم هندسة الخرائط والاتفاقيات والضغوط، الدولة التي طال انتظارها لم تعد سؤالاً، بل جواباً يتأخر لكنه يقترب بثبات.