: آخر تحديث

لماذا فضل شاكر أحلى رسمة؟

5
5
4

محمد ناصر العطوان

في عالم يبيع الوهم بأسعار الذهب، حيث تختفي الأصوات الحقيقية خلف جدران الاستديوهات الفاخرة وفرق التسويق الجرارة، يخرج صوت من قلب المخيم...

من غرفة صغيرة، بجدران تسمع أنين التاريخ، وبأدوات بسيطة: تليفون، مايك، وقلب كبير... هذا الصوت اسمه فضل شاكر.

ليس نجماً ساطعاً في سماء صناعة الترفيه... ليس «سوبر ستار» يلمع ثم ينطفئ. ليس مطرباً يبيع صوته في سوق النفاق، حيث تُباع الأناشيد الدينية في ساحات السياسة، وتُهدى الأغاني الماجنة في بارات الليل.

فضل شاكر شيء آخر: «فنان» لبناني ابن المخيم الفلسطيني الذي لا ينكر أباه... ابن البلد المضطرب الذي لا يتنكر لألمه.

الغرفة الصغيرة كانت كافية في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، حيث الاضطراب حائط وحياة، كان الاضطراب الخارجي يطلب اليأس.

لكن فضل شاكر اختار الرسم... ليس بالفرشاة والألوان الباهظة، بل بالكلمة والصورة والصوت. أغنية «أحلى رسمة». ولدت في غرفة... كاميرا الهاتف هي عين العالم... المايك البسيط هو جسر الصوت... لا إضاءة فاخرة، لا مؤثرات تخطف الأنفاس.

فقط شاب، ونظارة شمسية تخفي ما يخفيه المطربين بالمكياج، وحكاية تريد أن تُروى.

أليس هذا هو جوهر الفن الحقيقي؟! أن تصنع الجمال من رحم القلة؟ أن ترسم الكون وأنت في زنزانة؟ لقد أثبت فضل شاكر أن «القليل» في يد من يؤمن، يصبح «كثيراً» يهز النفوس. لقد رسمت الشعوب أحلامها دوماً على جدران السجون وأوراق الخبز، وها هو فضل يرسم أغنيتنا على شاشة هاتف.

يقولون «خاض رحلة إلى الله». صحيح. لكن رحلته لم تكن في السماء المعزولة. كانت على الأرض الوعرة.

في الطريق، صادف فضل شاكر البشر... صادف الأجندات الخفية. صادف وجوه المخيم المتعبة، صادف آلام أمته وبلده، صادف ظلم المحيط. فلم يغلق عينيه. تعلم. سمع. تألم. غنى. غنى للحب، للوطن، للقضية، للكرامة، لله. غناه صادقاً، بلا زيف. «ولا يؤذي أحداً». هذه بوصلة أخلاقه.

الفن الذي لا يجرح كرامة إنسان، الفن الذي يبني ولا يهدم، الفن الذي يقول الحقيقة بلطف أو بقوة، من دون أن يخون إنسانية الآخر، حتى لو اختلف معه. هذه هي رسالة الفنان، لا تاج النجم الزائف!

وحتى لو أخطأ في الطريق فهو «الجدع» - باللهجة التي تحمل دفء الأرض وملح البحر - ابن المخيم.

لا يتبرأ من هويته، لا يخجل من حكايته، لا يبيع مأساته لعقد التلفزيونات. يتحدث عن أصله بفخر حزين.

عندما يعلو صوته، تعرف أن صوت المخيمات يرتفع معه. عندما يتفاعل مع قضايا مجتمعه، تعرف أن قلبه ينبض مع نبضهم. هذا ليس «مطرباً». المطربون يؤدون... الفنانون يعيشون ما يؤدون...

نجاح «أحلى رسمة» لم يصنعه فريق تسويق عالمي. صنعه الصدق. صنعه الألم المطرز ألحاناً. صنعه الإيمان البسيط..لذلك يقول فضل شاكر كلمته التي تزلزل أبراج الصناعة الفارغة: «بتوفيق الله... وليس بفريق التسويق عندي». إنها صفعة للفن السلعة، ونشيد للفن الهبة.

لماذا نحبه إذاً؟ لماذا نتعاطف معه؟ لأنه يشبهنا. ليس بطلاً خارقاً... ليس ملاكاً منزهاً. هو إنسان. فيه ضعفنا وقوتنا. حلمنا وإحباطنا. إيمانه وشكواه.

يكافح. يخطئ. يتعلم. يسقط ويقوم. يغني وهو يبكي. يضحك وفي عينيه غيمة. يبحث عن الله في زحام الدنيا. لا يدعي الكمال، بل يظهر الإنسانية بكامل تجاعيدها وجمالها. هذا هو الفنان الذي نريده... الذي نحتاجه. ليس الصنم اللامع، ولا نجم الشباك المصنوع من التسويق بل المرآة التي تعكس وجوهنا الحقيقية، في المخيم، في القرية، في المدينة، في قلب العاصفة.

فضل شاكر لم يبنِ أبراجاً من ذهب بأغانيه... بنى جسوراً. جسوراً من الأصوات بين المخيمات وبين القلوب. جسور بين القلة والكثرة، بين اليأس والأمل، بين الأرض والسماء.

أغنيته «أحلى رسمة» هي خريطة طريق. تذكرنا: عندما نؤمن، حتى التليفون في غرفة صغيرة بمخيم محاصر، يمكنه أن يرسم للعالم كله... «أحلى رسمة».

رسمة كرامتنا التي لا تباع، وأملنا الذي لا يموت، وصوتنا الذي لا يُسكت. هذه هي قوة الفن الحقيقي. وهذا هو فضل شاكر: فناننا الذي يشبهنا...

وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله...أبتر... وكل ما لا يراد به وجه الله، يضمحل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد