: آخر تحديث

انهيار الوهم القومي: دروس من تجربة العروبة..!

4
4
4

محمد الساعد

واحد من أكثر الخلافات العربية مرارة كان بين سورية والعراق البعثيتين؛ بالرغم من أن النظامين اتبعا عقيدة البعث السياسية، وقاما على الدعوة لشعارات «أمة عربية واحدة من بغداد إلى تطوان»، حتى راجت عنهما هذه المقولة: «آمنت بالبعث .... لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثان»، تطرّف قومي عربي في أقصى درجاته، إلا أن كل ما أطلقاه من شعارات رومانسية سقط في أول اختبار بين توأمين خرجا من رحم البعث، إذ لم تتجاوز تلك الشعارات الرنانة إذاعتي بغداد ودمشق، وبقي النظامان يكيدان ويحيكان المؤامرات لبعضهما لأكثر من ثلاثين سنة.

لقد زايد على فكرة «القومية العربية» الكثير من المتكسّبين، واستخدمت مبرراً للاتهامات والتدخلات في الشؤون الداخلية العربية، بل وصل الأمر إلى التدخل العسكري في بعض الأحيان، كل ذلك تحت مبرر الوصول إلى وحدة عربية لم يكن بالإمكان تحقيقها تحت المزايدات والتنمر والاستعلاء.

سقطت الوحدة العربية في تجارب عديدة قاسية، نذكر منها سورية ومصر 1961-1958، واليمنين الجنوبي والشمالي 1990، والتي عاشت بسببها حرباً أهلية 1994، وكذلك الوحدة بين تونس وليبيا تحت مسمى الجمهورية العربية الإسلامية العام 1974. كلها مشاريع وحدوية لم تنجح، ومع ذلك بقيت القومية عصا يستخدمها كل من يدخل في انسداد اقتصادي أو سياسي، رافعاً قضية فلسطين ومستخدماً القومية العربية.

الكثير ينسى تحت طغيان الآلة الإعلامية لمحدثي نعمة العروبة، أن فكرة القومية العربية قديمة قدم الدولة العربية، وهي ليست وليدة صحيفة تشرين، ولا تلفزيون بغداد، ولا إذاعة صوت العرب، ولا كتاب القذافي الأخضر، ولم يخترعها ميشيل عفلق، ولا جورج حبش، ولا أبو نضال، ولا كل الذين استغلوا هذه الفكرة لصالح أجنداتهم.

بل انطلقت على أيدي فرسان الجزيرة العربية من بني أمية الذين أسّسوا أول قومية عربية خالصة، حكمت نصف العالم لقرن تقريباً وبقيت تعيش على ذلك الإرث لقرنين آخرين تحت لواء الخلافة العباسية، ومع تآكل فكرة الدولة العربية على أيدي الشعوبيين الذين تسللوا إلى داخل بنية الدولة العربية، تراجع الحكم العربي، وانتهى تماماً في بغداد ودمشق والأندلس، وأصبح يحكم كثيراً من بلاد العرب «السلاجقة والأيوبيون والمماليك»، مع التذكير أن معظم الجزيرة العربية بقيت في منأى عن حكم الأقليات غير العربية لها، وكأن الله قدّر لها أن تبقى الحصن الأخير للإنسان العربي ولغته وثقافته إلى اليوم.

من الضروري التذكير أن انبعاث حركات القومية العربية الحديثة نشأ بداية القرن العشرين وحتى قبل الدعوة لها من الجمهوريات ومثقفيها وإعلامها، وساهمت تلك الحركات في إعادة إحياء القومية العربية وبعثها من جديد، وكان على رأس المساهمين «الجمعية القحطانية» التي تأسّست كمنظمة سياسية عربية سرية في إسطنبول عام 1909، بسبب صعود القوميين الأتراك، وهدفت الجمعية إلى تعزيز الفكرة العربية وتأمين استقلال ذاتي للولايات العربية داخل الدولة العثمانية.

ثم تبعها ظهور جمعيات عربية أخرى تناصر نفس الفكرة، ومناهضة للقومية التركية ومدافعة عن حق العرب في لغتهم وثقافتهم وحكم بلادهم، وكانت جمعية «العربية الفتاة» من أبرزها؛ التي تأسّست في باريس عام 1911، بهدف الدفاع عن حقوق العرب ورفع مستواهم الثقافي والاجتماعي والسياسي، ومواجهة سياسات التتريك التي طبّقتها بعنف جمعية الاتحاد والترقي الحاكمة في آخر عمر الدولة العثمانية، كل ذلك كان في وقت مبكر من التاريخ السياسي العربي الحديث.

الآن يبدو أن الأمر مختلف جداً، فبعض مدعي العروبة أضحوا أكثر ميلاً نحو الدولة القُطْريّة وأكثر انعزالاً، مبتعدين عن عالم عربي لطالما ملؤه ضجيجاً تحت مسميات وقضايا عدة، لكن وبعد أن كسدت تلك البضاعة، أصبح التخلي عنها شعاراً جديداً لبعض مثقفين ومتنمرين لطالما صدّعوا رؤوس باقي العرب بتفوّقهم الثقافي، تفوق مشكوك فيه، فما زال يقتات من لسان وحرف اللغة العربية وإرثها المنقول من الجزيرة العربية، فهل التخلي عن العروبة يعني التخلي عن الحرف العربي، واللسان العربي، لننتظر ونرى.. فالتخلي الحقيقي لا ينفصل عن ذلك أبداً.

يبدو اليوم أن العروبة كفكرة رومانسية جذابة تبناها مثقفون وسياسيون منذ العام 1900، وحتى غدا السابع من أكتوبر، ترفاً لا لزوم له مع تغيّر المصالح، وستكون هي الأخرى إحدى ضحايا السابع من أكتوبر، الذي تحوّل إلى كرة نار يصعب إيقاف تأثيراتها، لكنها بلا شك غيّرت وجه العالم، وكشفت عن أن القومية العربية كانت مجرد شعارات للتكسّب وعندما انتهى وقتها بدأ الانتقال نحو شعارات أخرى.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد