عمر الطبطبائي
الدولة، أي دولة في العالم، ليست جهازاً وموازنة ومراسيم، الدولة فكرة والطبقة الوسطى هي الحاضنة الاجتماعية لهذه الفكرة، فعندما تنهار هذه الطبقة، لا تعود الدولة إلى ما قبل الحداثة، بل تسقط في ما بعدها، حيث تتعايش الفجوة الهائلة بين من يملك كل شيء ومن لا يملك شيئاً، بلا قيم مشتركة ولا عقد اجتماعي ولا حتى وهم التعايش.
الطبقة الوسطى ليست مجرد شريحة بين الغني والفقير، إنما هي القوة الصامتة التي تحفظ توازن الدولة، هي التي تنفق وتعلم أبناءها، وتدفع ضرائبها إن طلب منها، وتؤمن بالقانون، وتطالب بالإصلاح بأسلوب سلمي متحضر.
وقد أفاض المفكرون الاقتصاديون في هذا، فآدم سميث، نفسه أشار إلى ضرورة وجود «عدد كافٍ من الناس الذين يملكون ما يكفي ليستهلكوا دون أن يكونوا أغنياء»، لأنهم وحدهم من يصنع الطلب المستدام ويحرك الإنتاج، وجون كينز بنى نظريته في «الطلب الفعّال» على هذا الوجود، واعتبر أن إنفاق الطبقة الوسطى هو الوقود الحقيقي لعجلة الاقتصاد.
لكن في الكويت، ورغم وفرة الموارد، إلا أن هناك خشية من أن تتعرض الطبقة الوسطى لعملية إنهاك بطيء، في ظل قرارات تُبرّر بالعبارات نفسها: «إعادة هيكلة الدعم»، «ترشيد الإنفاق»، «تصحيح تشوهات سوق العمل»، فهذه الإجراءات وفي أي دولة تتسبب غالباً بإضعاف قدرة المواطن المتوسط على العيش الكريم دون ديون، أو اضطرار أحد الزوجين للعمل الإضافي، أو التضحية بتعليم الأبناء في مدارس خاصة، أو صرف المدخرات القليلة على نفقات أساسية.
هناك خوف من استنزاف الطبقة الوسطى، ومن دفع كلفة ما يسمى إصلاحاً، دون أن يفتح ملف الامتيازات أو يمس الهدر الكبير، فالترشيد بلا عدالة ليس إصلاحاً بل إفقار ناعم بغطاء تكنوقراطي.
في المبدأ وفي أي مكان، الموضوع ليس صراعاً بين طبقات، إنما هو تآكل طبقة هي الضمانة الأخيرة للجميع، فحين تضعف الطبقة الوسطى لا ينهار الفقراء فقط، بل يفقد الأغنياء حتى «السوق» الذي يستهلك ما ينتجونه، ويبدأ الخوف الاجتماعي في التسلل من تحت الأبواب المغلقة.
في الكويت، كثير من القرارات والسياسات ليست مصممة لضرب الطبقة الوسطى، لكن مقاربتها المالية قصيرة النظر، ترى الأرقام ولا ترى غيرها، فعندما ترفع مثلاً أسعار البنزين والكهرباء، وتبقى رواتب الموظفين مجمدة، وعندما تتضخم الإيجارات والأسعار من دون أدوات حقيقية للرقابة، فهي تراكم الضغط على الشريحة الحريصة على البلد.
الطبقة الوسطى لا تملك «لوبي» اقتصادياً، ولا تسيطر على الإعلام، ولا تستطيع التخلي عن البلد والانتقال إلى ملاذات آمنة، لكنها تزرع الفكرة في الطفل، وتحمل القانون في سلوكها اليومي، وتنتظر من الدولة أكثر من مجرد معاش أو خدمات... تنتظر مشروعاً وطنياً يشملها.
لا توجد دولة قوية في العالم من دون طبقة وسطى قوية، فالمجتمع الذي تضيق فيه هذه الشريحة، يصبح مسكوناً بالاستقطاب، ضعيف التوازن.
إنّ حماية الطبقة الوسطى لا تعني إغفال من هم دونها، فهناك فئة تتسع يوماً بعد يوم، لم تعد فقيرة بمفهوم الدعم التقليدي، لكنها لا تملك الأمان ولا الوسيلة للصعود، تعيش على الحافة ويكفي مرض أو أزمة صغيرة لتهوي بها نحو مرحلة أصعب، هذه الفئة كانت بالأمس جزءاً من الطبقة المنتجة، وهي أول من يدفع ثمن أي قرار اقتصادي غير عادل. نحتاج إلى سياسة ترى هذه الشريحة لا كعبء بل كطاقة معطلة يجب تمكينها عبر ضبط تكاليف المعيشة، خصوصاً الإيجارات التي تبتلع أكثر من نصف دخل الأسرة، وتوفير حماية موقتة لمن يفقد عمله، وإعادة توجيه التدريب المهني نحو وظائف حقيقية تفتح باب الاستقرار لا مجرد شهادات.
نحن بحاجة إلى إصلاح سوق العمل بحيث يصبح المواطن الكفؤ هو الخيار الأول، لا خيار المجاملة ولا العاطفة، وأن يشعر كل من يعمل ويجتهد، أن للدولة مشروعاً يضمن له العيش الكريم من دون الاعتماد على واسطة أو تحمّل ديون طويلة، لا نطلب إعفاءات بل عدالة، لا نبحث عن دعم يُشترى بالسكوت بل عن استثمار في الإنسان الكويتي الذي يريد أن يعيش بكرامة ويُربي أبناءه بأمل، فحين يشعر هذا المواطن أن الدولة تراه، تحميه، وتؤمن به، فإنه يكون أول من ينهض بها.
ولهذا، فإن من الواجب البدء بمجموعة من السياسات العادلة الواقعية التي تحمي وتستعيد الثقة:
أولاً: ضبط الإيجارات بتشريع عادل، يضع حداً أقصى سنوياً للزيادة، مرتبطاً بمعدل التضخم الحقيقي، مع لجنة مستقلة لتحديد القيمة العادلة حسب المنطقة والمساحة. هذا لا يُقصي المُلّاك، بل يعيد التوازن بين حق الملكية وحق السكن الكريم، ويمنع تحويل المدن إلى بيئة طاردة للطبقات المنتجة.
ثانياً: إصلاح سوق العمل بتمكين المواطن لا بإقصاء الآخر، عبر ربط دعم العمالة بالإنتاجية، وتصنيف الشركات بناءً على جودة التوظيف، وربط هذا التصنيف بالمناقصات والتراخيص الحكومية. وتمكين المواطن لا يعني إقصاء الوافد بل تنظيم العلاقة لصالح العدالة والاستقرار.
ثالثاً: إنشاء مؤشر وطني للعدالة الاجتماعية، يُنشر سنوياً، ويقيس توزيع الدخل، كلفة المعيشة، جودة الخدمات، وفرص الصعود الاجتماعي. هذا المؤشر يجب أن يكون أداة رقابة وطنية، تضيء مواضع الخلل، وتفرض التعديل إن اختلت الكفة.
رابعاً: تأسيس مجلس وطني استشاري للطبقة الوسطى والدنيا، يضم ممثلين حقيقيين من مختلف المهن والشرائح، يقدم توصيات دورية للسلطة التنفيذية والتشريعية، ويُعامل كجسم شرعي يحمي مصالح من لا «لوبي» لهم.
خامساً: تصميم برامج حماية للفئة الدنيا، تغطي من يفقد عمله أو دخله بشكل موقت، وتوفر دعماً مباشراً في السكن والغذاء والتعليم المهني، كي لا تتحول هذه الشريحة إلى طبقة منقطعة عن الأمل والدولة معاً.
لسنا بحاجة إلى خطاب شعبي متوتر، بل إلى سياسات عادلة ترى في المواطن العادي هدفاً أصيلاً لا عبئاً محتملاً، فالإصلاح يتطلب إرادة واعية تضع الطبقة الوسطى وما دونها في قلب المعادلة الوطنية، لأنها الكتلة التي ينهض بها الاستقرار ويقاس من خلالها عدل السياسات.
لا تتركوا الطبقة الوسطى تذبُل، فحين تذبل تجف منابع الاستقرار.
اللهم قد قلنا ما في ضميرنا فكن لنا شهيداً.