موسى بهبهاني
تطل علينا الذكرى السنوية الرابعة لوفاة فقيدي المرحوم الذي لا يعوض (مهدي).
«ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا».
فكيف للحياة أن تحلو من دون تلك الزينة، بفقدك يا قرة عيني وثمرة فؤادي يا (مهدي).
الألم لم يفارقني طوال تلك السنوات الطويلة، وايقنت بأن ألم فقد الأحبة يبقى ويظل كما هو حتى وان مر عليه الزمن، فالحزن على الراحلين لا يزول ولا يغيب يوماً عن قلوبنا.
ولدي (مهدي)
أخاطبك من عالمي الزائل إلى عالمك الباقي، أنت لست ذكرى فقط، بل أنت باقٍ وحي في قلبي وعقلي وفي سكوتي وهمساتي... دائماً أحنّ وأشتاق لرؤيتك ولسماع صوتك والحديث معك، فلا يزال القلب يئن وجعاً وألماً على غيابك، وتظل ذكرياتك باقية في كل زوايا المنزل وصدى ضحكاتك وصوتك حاضرة في قلبي ويبقى الحنين لك هو الطاغي بلا منازع.
قرة عيني يا (مهدي)
فقدك كسر همتي وآلم قلبي، لا يشعر عامة الناس بما أعانيه من أحاسيس وأوجاع، إلا من عاناها بفقد الأبناء.
واعلم يا ولدي
لا تزال في ذاكرتي صورتك، ووجهك الباسم، ونبرة صوتك المطمئنة، ومواقفك المتعددة الطيبة والرجولية.
في آخر لقاء لنا قبل سويعات من رحليك تمنيت لو أني عانقتك يا ثمرة فؤادي بشدة عناق يكفيني لكل هذه الأيام الخالية منك.
ففي القلب غصات الحنين لأغلى الناس ولولا الصبر لما عشت من بعدك يا مهدي.
أدعو المولى عز وجل أن يرحمك ويعوض شبابك بالجنة، ولا يوجد كلام يصف وجع غيابك... بعد رحيلك لا حزن ينتهي ولا فرح يكتمل، غفر الله لك يا (مهدي) وجعلك من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
جاء في الحديث عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله:
«إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
بالرغم من رحيلك وأنت شاب لا تزال طالباً مبتعثاً في الخارج، تركت بصمة في الوفاء والعطاء في عمرك القصير.
أجدك عملت كل ما ذكر في الحديث أعلاه:
- الصدقة الجارية
قمت بأدائها بتقديم المساعدة للمحتاجين مستقطعاً مبلغاً من الإعانة الجامعية ومن مصروفك الشخصي.
وكذلك التزامك بالتبرع بالدم سنوياً للمحتاجين، بالإضافة قمت بالتبرع بالبلازما خلال فترة انتشار وباء كورونا للمساهمة في علاج من كان بحاجة إليها.
ولك خصلة حسنة في فزعة الشباب المؤمن الغيور عندما يرى الباطل وينصر الحق دون خوف، أذكر هنا الموقف الذي حدث أمامك في الدولة التي كنت مبتعثاً إليها، عندما تعرّضت إحدى الفتيات في المجمع التجاري لسرقة حقيبتها اليدوية واستنجدت بك، فما كان منك إلا الركض واللحاق بالسارق من المجمع إلى الخارج وفي الطرقات وأنت في السنة السابعة عشرة من عمرك.
عادة الأب يعلم الأبناء وأنا تعلمت من الابن حب التبرع بالدم وإنقاذ حياة الآخرين والتزمت بذلك سنوياً منذ وفاتك يا ولدي وأحببت القيام بما كنت تقوم به في حياتك بالرغم من خوفي الشديد من وخز الإبرة.
- علم ينتفع به:
قمت به من خلال مساعدتك للطلبة المستجدين في الخارج بتقديم كل المساعدة سواء في النصح أثناء التسجيل واختيار المواد والمساعدة في إيجاد السكن للطلبة.
- ولد صالح يدعو له:
لم تكن متزوجاً لترزق بالأبناء إنما حصدت محبة الأبناء الصغار والكبار، الكل من عرفك ومن لم يعرفك يدعو لك صباحاً ومساءً، ومنهم من يزورك في روضة الصالحين ويدعو لك بالرحمة والمغفرة، كسبت محبة الناس يا ولدي وتلك نعمة كبيرة.
ما كنت أحسبُ قبل دفنك في الثرى
أن الكواكب في التراب تَغُورُ
ياعَينُ جُودي بالدّموعِ وأكثرِي
رَحلَ الذين نُحبُّهم فتصبّرِي
فالموت حق والفقد سنة الحياة المبكية، والفواجع لا تنسى ولو مر عليه الزمن، وان الحزن على الراحلين لا يموت، نعم نمضي، نتجاوز، نتناسى، لكن ذكرى رحليهم تتجدد مع كل خبر وفاة.
وهنا نتذكر الرسول الأكبر عندما فقد ابنه إبراهيم، فقال:
العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الله، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
وأقول يا مهدي إنا لفراقك لمحزونون.
ما زلت أبكيك غائباً، أبكيك فقداً، أبكيك شوقاً وكأنما غيابك كان بالأمس، رحمك الله يا سعادة رحلت عنا...!
ما أصعب أن أذكر اسمك يا ولدي ثم اتبعه بـ (رحمك الله).
وعدت وأوفيت يا مهدي
عادةً الوعود تعطي من الأحياء وان حان الأجل لا تتحقق، انما هناك حالات وان غاب الإنسان عن هذه الدنيا الفانية تتحقق وعوده في غيابه.
ففي تلك الليلة والساعات الأخيرة أتذكر كل الأحاديث التي دارت بيننا عند ليلة الفقد يا ولدي، كل كلمة كل تفصيل، وكأنه كتاب أتصفحه بين يديّ، قطعت لي وعداً من دون أن أطلبه منك، بل كانت بادرة من قلبك تلقائياً أخبرتني: يايبه والله راح أخليك تفتخر فيني وترفع رأسك عالياً، وبالفعل تحقق هذا الوعد يا ولدي فأنا والله أفتخر فيك وكل مرة أسمع بما كانت لك من أعمال ومواقف مشرفة أرفع رأسي فخراً فيك، كفيت ووفيت يالعزيز الغالي (مهدي) طاب منامك الطويل ورحم الله روحاً لا تولد ولا تعوض مرة أخرى.
الفقد مؤلم بل هو أشد بكل حالاته إنما تختلف درجات الألم من حالة إلى أخرى.
ووجدت فقد الابن صعب جداً وألمه أكبر،
فسامحني يا ولدي إن قصرت معك،
سامحني إن جرحتك بكلمة خرجت مني،
سامحني إن كنت أنا سبباً في دمعة نزلت من عينيك، سامحني يا ولدي إن أزعجتك في حياتك، سامحني أن أخطأت في حقك، فأنا يا قرة عيني لم يكن مني كل هذا إلا حباً وخوفاً عليك.
أتمنى بأنني قد صنت الأمانة قبل أن ترجع إلى خالقها، وأرجو بأنني قد وفقت في التربية الصالحة لأبنائي ولك يا فقيدي مهدي لما يرضي المولى عز وجل، فأنت الآن وفدت إلى العادل الرحيم الذي لا يضاهيه أحد.
ذكرى سنوية وفاة الابن الغالي في قلب الأم والاب والإخوة والأهل، بالتأكيد فيه من الألم الكثير، حيث يتم تذكر حياة الفقيد وتصرفاته ومواقفه، ولا نملك بعد الفقد غير الدعاء، فهو الوسيلة الوحيدة التي تتنزل بالرحمة على روحه في القبر، فيأنس بها ويفرح بها، فالأحبة الراحلون لا يحتاجون من الأحياء غير الدعاء، فكيف ان كان الفقيد فلذة كبد الأم والأب، ولذلك نكثر من الدعاء لابننا المرحوم بإذن الله.
بِسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحِيمِ
السَّلامُ عَلى أَهلِ لا إِلهَ إِلاّ الله، مِن أَهلِ لا إِلهَ إِلاّ الله، يا أهلَ لا إِلهَ إِلاّ الله، بِحَقِّ لا إِلهَ إِلاّ الله، كَيفَ وَجَدتُم قَولَ لا إِلهَ إِلاّ الله، مِن لا إِلهَ إِلاّ الله، يا لا إِلهَ إِلاّ الله، بِحَقِّ لا إِلهَ إِلاّ الله، اغفِر لِمَن قالَ لا إِلهَ إِلاّ الله، وَاحشُرنا فِي زُمرَةِ مَن قالَ لا إِلهَ إِلاّ الله، مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله.
اللّهُمَّ جافِ الاَرضَ عَن جُنُوبِهِم وَصاعِد إِلَيكَ أَرواحَهُم وَلَقِّهِم مِنكَ رِضواناً وَأسكِن إِلَيهِم مِن رَحمَتِكَ ما تَصِلُ بِهِ وَحدَتَهُم وَتُؤنِسُ بِهِ وَحشَتَهُم إِنَّكَ عَلى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، تَابِع بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْخَيْرَات.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، صَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، حُرَّنَا وَمَمْلُوكنا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فَرِحاً مُسْتَبْشِراً ضَاحِكاً مَسْرُوراً اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَتُبْ عَلَيْهِ إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
اللَّهُمَّ ارحَم غُربَتَه، وَصِل وَحدَتَه، وَآنِس وَحشَتَه، وَآمِن رَوعَتَه، وَأسكِن إلَيهِ مِن رَحمَتِكَ ما يَستَغني بِهِ عَن رَحمَةِ مَن سِواك، وَألحِقهُ بِمَن كانَ يَتَوَلاّه.
اللَّهُمَّ جافِ الأرضَ عَن جُنوبِهِم، وَصاعِد إلَيكَ أرواحَهُم، وَلَقِّهِم مِنكَ رِضواناً، وَأسكِن إلَيهِم مِن رَحمَتِكَ ما تَصِلُ بِهِ وَحدَتَهُم وَتُؤنِس بِهِ وَحشَتَهُم، إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَدير.
السَّلامُ عَلَيكُم يا أهلَ القُبورِ مِن أهلِ القُصور، أنتُم لَنا فَرَطٌ وَنَحنُ لَكُم تَبَع، وَإنَّا إن شاءَ اللهُ بِكُم لاحِقون.
رثاء ولدي مهدي للاستاذ الأديب / عبدالرسول الفراتي بأبيات قائلاً:
بُني مهدي
بُني مهدي... أين تمضي والفؤادُ تفَجعا
وكيف رَحلتَ في شبابكَ مُسرعا
أحقاً مضى ذاك الفتى دون رَجعةٍ
أبياَ نقياً... بالنزاهة مُشبعا
أحقاً مضى ذاك الجمالُ وضوْؤهُ
أحقاً سُنونٌ قد مضت منكَ اربَعا
عرفناكَ قلباً بالهدايةِ مفعماً
عفيفاً نظيفاً طاهراً متشرِعا
«إنّا لله وإنّا اليه راجعون».