في عالم لا يكفّ عن الجدل بشأن المبادئ، تدور صراعات على كل المستويات: بين الحبر والدم، بين القانون والواجب الأخلاقي. هناك لحظات فارقة، يتوقف فيها العالم ليشاهد كيف تختار الدول مواجهة اختبارات الضمير الإنساني الأصعب. في هذه اللحظات، يغدو الخيار غير المفروض امتحاناً حقيقياً للنبالة، حين يتحول ما هو طوعيّ إلى منارة أخلاقية تنير عتمة «الإملاءات» العابرة للقارات. تعجب المجتمعات من دولة لم توقّع على معاهدات الحق في اللجوء، لكنها أخذت على عاتقها، من دون إلزام أو نصّ دولي، استقبال قوافل من البشر الهاربين من الخوف والفقر والمجهول. كثيرون يرسمون صوراً سطحية، ويكتفون بجردة الحسابات: «لماذا؟ وكيف؟ وأين النصوص؟»، لكن في تلك الرقعة الرملية الشاسعة، لم يكن السؤال قانونياً، بل كان إنسانياً وجدانياً. في وقت كان فيه صدى الإملاءات يتردد عبر أروقة المنظمات وغرف السياسات الباردة، اختارت الإمارات أن تفعل ما لم يكن مطلوباً منها، وتحمّلت عبء أشياء لم تفرض عليها تحت أي توقيع، وليست مطالبة بها بحكم القانون الدولي. استقبلت الآلاف، أنشأت مدناً للاجئين من الصفر، وقدّمت ما لا يُشترط، ليس طمعاً في الاعتراف، ولا انتظاراً لوسام. لنعُد قليلاً إلى أعقاب الذاكرة القريبة، ما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، كان مشهد الانهيار صاعقاً. لم يكن اللاجئون مجرد أرقام في نشرات الأخبار، بل كانوا قصصاً من جلدٍ ودمٍ وقلقٍ وخوف. هنا، وسط هذا الانهيار، لم تتأخر الإمارات، كانت من أوائل الدول التي فتحت أبوابها، لا أمام الكاميرات، بل خلفها، حيث تُبنى المواقف لا الحملات. ملايين الدولارات صُرفت من دون استعراض إعلامي، مدن كاملة وُلدت من العدم، فجعلت الخيم بيوتاً والمدارس منابر أمل. خدمات الرعاية الصحية والتعليم والنقل، كلها وُفِّرت بلا منّة ولا دعاية. لم يُطلب من الإمارات ذلك، بل فعلته لأنها أدركت أن الكبرياء الوطني لا يُقاس بعدد الاتفاقيات، بل بوزن القرارات الأخلاقية في أعين التاريخ، كما أن إرث زايد الذي قاد بوصلة هذه البلاد، لم يكن ليقف صامتاً أمام ما يحدث في كابول، من دون تقديم يد العون البيضاء في أشد اللحظات الحالكة. وفي وقتٍ كان فيه العالم يكتفي بالكلمات، أو يلجأ إلى عبارات التنديد والإملاء، رُفع سقف الفعل فوق منابر الأقوال الجوفاء. هنا، تختصر المعادلة: أن تُمارس الإنسانية اختياراً لا إملاءً، وتضع إنقاذ الكرامة البشرية فوق كل تقسيم سياسي أو جفاء بيروقراطي. ليس عدو الكرامة الإنسانية دوماً هو الجوع، بل أحياناً النسيان. الفارق بين لافتات التعاطف البارد والمواقف العملية أن الأخير يرافقه جهدٌ حقيقي وتضحية مادية ومعنوية. ولعلّ حكاية الإنفاق السخي لإنقاذ إنسان واحد، من دون مقابل، تُعلّمنا درساً بسيطاً وعميقاً: أن شرف الإنسانية لا يُوزّع، بل يُمارس. ليس كل من أنفق فعلًا قد أعلن، وليس كل من أعلن فعلاً قد أنفق. وهنا تماماً، تتجلى قيمة الموقف حين يكون نابعاً من شعورٍ داخلي، لا من بندٍ قانوني. الإمارات لم تعلن عن كل ما قدّمت، لكنها حملت فوق ترابها آلاف القصص التي نجت من الهاوية، وصاغت لها ملجأ لا يحتاج إلى تصفيق. لكن العالم لا يهدأ. إذ ما إن تتجاوز دولةٌ امتحان الضمير بنجاح، حتى تنهال عليها الأسئلة التي لا تُسأل إلا للفاعل. أما الغافل، فيُترك وشأنه. في الأشهر الأخيرة، تعرّضت الإمارات لحملة من التشكيك والضغط الإعلامي والسياسي، بحجة مزاعم تتعلق بترحيل بعض اللاجئين الأفغان. وهنا ينبغي تذكير الجميع بحقيقة قانونية لا تقبل التأويل: الإمارات ليست طرفاً في اتفاقية اللاجئين لعام 1951، وليست ملزمةً بأي من بنودها. وبالتالي، فإن ما قدمته كان فوق ما يُطلب، وأبعد مما يُتوقع. ثمّة ميلٌ مزمن لدى بعض الدول لارتداء عباءة «الوصاية الأخلاقية»، في حين أن سجلّها العملي في التعامل مع قضايا اللجوء لا يخلو من علامات استفهام. في المقابل، تقف الإمارات على أرض أخلاقية صلبة: لم تُغلق الباب، ولم تُشرّع له بلا ضوابط. بل اختارت التوازن: أن تمنح الأمان لمن يحتاجه، وأن تحافظ في الوقت ذاته على أمنها وسيادتها. ولأن السيادة لا تُقاس بدرجة التماهي مع الصوت العالي، بل بقدرة الدول على اتخاذ ما تراه صائباً في سياقاتها الوطنية والإنسانية، يبقى الثابت أن العلاقات بين الدول لا تُبنى على مبدأ الإملاء، ولا تُدار بمنطق الاستفزاز. فالدول ليست تلاميذ في صف دبلوماسي، ولا تُلام إن اختارت أن تكتب واجبها بلغةٍ مختلفة. من الطبيعي أن تتباين الرؤى، لكن من غير الطبيعي أن تُصبح الإملاءات بديلاً عن التفاهم، أو أن تتحول الاختلافات في التقدير إلى أدوات ضغط وتشويش. ثمّة فارق جوهري بين أن تُبدي رأياً، وبين أن تملي موقفاً. أما حين تصبح الإملاءات رديفاً لشرعية مختزلة، فإنها لا تخلق سوى توتر لا مكان له في علاقات دول ناضجة يُفترض أنها تقوم على الاحترام لا الوصاية. صحيح أن الإمارات ليست جزءاً من المعاهدات الدولية لحقوق اللاجئين، لكنها جزء أصيل من خط الدفاع الإنساني الذي يحفظ القيمة الأسمى: كرامة الإنسان، فليس كل مجبر يستحق الفضل، وليس كل من اختار العطاء بلا ضجيج يحتاج وساماً. في زحام المواقف الضبابية، وفي زمن العبارات السهلة، تختار بعض الأوطان أن تصنع الفارق بالفعل، لا بالقول. وقد يكون هذا، وحده، درع الشرف الحقيقي، ذلك الذي لا تمنحه أي منظمة، ولا ينتزعه نقدٌ طارئ أو إملاء عابر. هو شرف يصنعه القرار الحر، النابع من ضميرٍ لا يحتاج لوثيقة كي يؤمن بمعنى الكلمة: الإنسانية.
الإمارات.. حين تُمارس الإنسانية بلا إملاءات
مواضيع ذات صلة