: آخر تحديث

أوروبا تخشى سلاماً يُكتب في واشنطن

0
0
0

تتعامل أوروبا بحذر بالغ حيال تولي الولايات المتحدة دور الوسيط الرئيسي في الحرب الأوكرانية، على الرغم من عمق التحالف بين الجانبين عبر الناتو والتاريخ العسكري المشترك. فالقارة العجوز، التي تعيش تبعات الحرب بشكل مباشر، تنظر بريبة إلى أي تسوية تُولد في واشنطن، خشية أن تخدم حسابات أمريكية تتجاوز المصالح الأوروبية الى رهانات دولية أبعد.

فأوروبا تخشي أن تسعى الإدارة الأمريكية إلى إغلاق الملف الأوكراني بسرعة، ليس من أجل إنهاء الحرب بحد ذاتها، بل لطي الملف سريعا والتركيز على أولويتها الجيوسياسية الكبرى، التي تتركز في آسيا حاليا وتشمل المواجهة الاقتصادية مع الصين. هذه المقاربة، من وجهة النظر الأوروبية، قد تفضي إلى تسوية متسرعة تضع حدًا للقتال لكنها لا تضمن سلامًا دائمًا، وتترك القارة أمام واقع جغرافي هش وحدود قابلة للاشتعال في أي لحظة.

وتتزايد مخاوف الأوروبيين أيضًا من أن يؤدي الدور الأمريكي المتنامي إلى تهميش الصوت الأوروبي في تحديد مستقبل الأمن القاري. فالعواصم الأوروبية، وعلى رأسها باريس وبرلين، ترى أن أي وساطة تُدار من خارج القارة قد تحوّل هذه الأخيرة إلى ساحة نفوذ بدل أن تكون شريكًا فاعلًا في صياغة التسوية. وتدرك أوروبا أن دخول واشنطن بثقلها الدبلوماسي يعني عمليًا أن تكون موازين القوى والقرارات النهائية في يد واشنطن، ما يتعارض مع طموح الأوروبيين في بناء استقلالية عسكرية واستراتيجية طال انتظارها.

فمنذ اندلاع الصراع، تحملت أوروبا الكلفة الأكبر من خلال دفع فاتورة أزمة طاقة خانقة بعد توقف الإمدادات الروسية، مقابل ارتفاع غير مسبوق في أسعار الوقود والكهرباء، ما خلف تضخما يضغط على اقتصاداتها، وانكماشا مس قدرتها التنافسية الصناعية، فضلًا عن مخاطر أمنية على حدودها الشرقية الممتدة من البلطيق إلى البحر الأسود. لكن الولايات المتحدة استفادت من تلك الأزمة عبر زيادة صادراتها من الغاز والسلاح إلى الأسواق الأوروبية. وهو ما عزز قناعة الأوروبيين بأنّ مصالح واشنطن ليست دائمًا متطابقة مع مصالحهم.

إلى ذلك يضاف قلق أوروبي من المستقبل، خاصة وأن تكلفة ما بعد الحرب ستقع على كاهل أوروبا وحدها، بداية بإعادة إعمار أوكرانيا، مرورا بتأمين الحدود، وصولا إلى إدارة موجات اللجوء. أما الولايات المتحدة، فستبقى بعيدة جغرافيًا ومحصّنة اقتصاديًا، وهو ما يُشعر الأوروبيون بأن أي تسوية تُفرض من الخارج ستجعلهم يتحملون النتائج دون أن تكون لهم كلمة الحسم.

إن التحفظ الأوروبي على الوساطة الأمريكية لا يعكس رفضا مطلقا لمبادرات واشنطن، بقدر ما يعكس رغبة في الدفاع عن الذات وتحديد المصير. فالقارة تريد سلامًا يُبنى على رؤيتها ومصالحها، لأن الحرب في أوكرانيا هي اختبار حاسم لمستقبل أوروبا وقدرتها على رسم مصيرها ومستقبلها. لذلك، فإن أوروبا لا ترفض من حيث المبدأ الوساطة الأمريكية لكنها ترفض أن تُكتب نهايات هذه الحرب من خارج حدودها، وينشد الأوروبيون أن يحددوا بنفسهم شكل السلام الذي يناسبهم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.