: آخر تحديث
مبدعون في الذاكرة

فخري كريم… قلم لم يعرف الخضوع وصوت لا يعرف الصمت

0
0
1

في مشهد الصحافة العراقية الذي طالما أثقله الاستبداد وقيود المنفى، يطلّ فخري كريم كواحد من أكثر الوجوه رسوخاً في الذاكرة المهنية؛ نجمٌ لا يُطفأ مهما تراكمت حوله الرماديات، يخرج من أقبية الستينيات إلى منابر الحرية رويداً رويداً، حاملاً معه تاريخاً مكتوباً بالدم والحبر، لا يرضى بالصمت ولا يساوم على كلمة تُقال في وجه السلطة. وهو منذ بداياته الأولى لم يكن مجرّد صحفي شاب، بل مشروع مؤسّس لمرحلة جديدة في وعي الإعلام العراقي وجرأته ومساحته.

بدأت الحكاية في أواخر الخمسينيات، حين وجد نفسه أصغر عضو في نقابة الصحفيين العراقيين برئاسة محمد مهدي الجواهري عام 1959. بطاقة صحفية أثقل من عمره، لكنها كانت تذكـرة عبور إلى مهنة تتطلّب شجاعة قبل أن تتطلب موهبة. ولم يلبث هذا الفتى أن شقّ طريقه بسرعة مذهلة داخل غرف التحرير، ليصبح لاحقاً من أبرز صانعي خطاب "طريق الشعب" في السبعينيات، مديراً لتحريرها بين 1973 و1980.

هناك، لم يكن مجرد محرّر أو مشرف، بل مهندس مدرسة تحريرية كاملة تقوم على وضوح الفكرة، دقّة اللغة، والقدرة على تحويل الصحافة من منبر حزبي إلى مختبر نصوص يحترم القارئ ويستفزّ وعيه. ومع بداية الثمانينيات، يدخل فخري كريم مرحلة المنفى الطويل، لكنها لم تكن انقطاعاً، بل تحوّلاً. ففي الخارج أعاد تشكيل دوره من جديد؛ لم يعد صحفياً فقط، بل أصبح "صاحب مدرسة".

في دمشق، أسس تجربة "دار ابن الشعب" ثم "الفكر الجديد" و"النهج"، وهما مجلتان صارتا مرجعاً أساسيًا لقراءة تحولات اليسار العربي. هذه الأعمال لم تكن نشرات حزبية، بل منصات فكرية صاغت رؤية عابرة للحدود. وحين أسس دار المدى في دمشق عام 1994، لم يكن ذلك مجرد مشروع للنشر، بل استعادة لفكرة "الثقافة كمؤسسة"، التي جمعت كتّاباً عرباً وكرداً وعراقيين في فضاء واحد؛ فضاء يؤمن بأن الثقافة فعل مقاومة لا يقلّ عن السياسة.

في 2003، يعود إلى بغداد بعد نصف قرن من المطاردة والمنفى. لكنه لا يعود فرداً؛ يعود كمؤسسة كاملة تتحرك معه. يطلق جريدة "المدى" اليومية، لتصبح في أعوام قليلة واحدة من أهم الصحف وأكثرها تأثيراً، قائمة على مشروع مهني اتسم بـ: استقلالية الخطاب التحريري، فتح الأبواب أمام الأصوات المتنوعة، دعم التحقيقات الاستقصائية، وإعادة الاعتبار لصفحات الثقافة والفنون.

وتتوسع هذه التجربة لتصبح مؤسسة إعلامية وفكرية كبرى: وكالة أنباء، قناة فضائية، مجلة فصلية، و"صندوق التنمية الثقافية" الذي رعى مئات الجوائز والمنح وكرّم أسماء غابت عنها يد الدولة. لقد نافس فخري كريم الدولة في دورها الثقافي حين تخلّت هي عنه. كما أصبح مستشاراً لرئيس الجمهورية (2006–2014)، لكنه حافظ على هامش مستقل جعله قادراً على النقد وعلى قول ما لا يُقال في الكواليس الرسمية.

قد يكون فخري كريم من أكثر الأصوات جرأة في مشهد ما بعد 2003. نقده للفساد كان صريحاً، يصفه بأنه "فساد للتصدير"، ويتحدث عن الدولة المختطفة، وعن الأحزاب التي تحوّلت إلى ميليشيات، وعن الانتخابات المريضة بسلاح الظلّ، ورفضه الطائفية والمحاصصة لصالح دولة المواطنة.

لم يكن هجومه على قتلة المتظاهرين سياسياً، بل أخلاقياً، حين اتهمهم بقتل 1200 شهيد خرجوا ليقولوا: "نريد وطناً". وفي حواراته الأخيرة، بدا صوته أشبه بسيف لا تصدأ حدوده: حادّاً، نظيفاً، يقاتل بالحبر لا بالرصاص.

تمّ تقييمه عربيّاً من خلال منحه جائزة شخصية العام في دورتها الرابعة والعشرين تقديراً لمسيرته الطويلة وإسهاماته الواسعة في إثراء المشهد الإعلامي العربي، ودوره في حرية الكلمة ، وذلك في الوقت الذي لم يحظَ فيه بتقدير مماثل من الدولة، رغم أن مسيرته السياسية معروفة. ومع ذلك، ظلّ في جوهره إعلامياً يرى في الكلمة سلاحاً وفي الصورة رسالة.

يمتلك حسّاً مهنياً نادراً يجمع بين التحرير والإدارة والرؤية الثقافية؛ كان يعرف أين تُوجَّه الكاميرا، وكيف تُصاغ الجملة، وكيف تتحول الصفحة الأولى إلى بيان غير معلن. ولهذا أصبحت أعماله الإعلامية مرجعاً أساسياً لكل من يدرس تطور الصحافة العراقية بعد عام 1958 أو بعد 2003.

فخري كريم ليس مجرد صحفي بارز أو ناشر مؤثر؛ إنه شهادة حيّة على تحولات العراق، وعلى مقاومة الاستبداد، وعلى قدرة الكلمة على فتح نافذة في جدار معتم. اختار أن يبقى خارج مناطق الراحة، وخارج جغرافية الولاء، وأن يكتب بضمير لا تحجبه الأيديولوجيا ولا يغويه القرب من السلطة.

ولأن الأسماء الكبيرة لا تُقاس بما نالته من أوسمة، بل بما تركته من أثر، صار حضوره ركناً من أركان الذاكرة العراقية الحديثة؛ ذاكرةٌ تعرف أن كلّ مرحلة مفصلية في تاريخ البلاد حملت بصمته، وكلّ منعطف صعب وجد فيه الناس صوته معهم. وهكذا ترسّخ اسمه كجسرٍ بين أجيالٍ لا يجمعها سوى الإيمان بأن الحقيقة إرثٌ لا يُفرَّط به، وأن الكلمة الحرّة — مهما طال الزمن — تبقى الوثيقة الأصدق لتاريخ وطن.

وهكذا بقي صوت نجم المدى لا يغيب؛ يشعل في سماء الوعي وميضاً أبدياً، ويرفع صوت الشعب، ويحوّل الكلمة إلى سلاح يهزم الفساد ويَبني الأمل المستقبلي. ورغم المنافي والتهديدات، ظلّ حبراً لا يجفّ، يذكّر بأن الصحافة ليست مهنة فحسب، بل قدرٌ يُعاش بشجاعة حتى النهاية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.