: آخر تحديث

في سوريا… الثقافة تتحدّى الجراح!

2
2
3

بعد عامٍ واحد على التحرير، لا يزال المشهد الثقافي في سوريا يعكس صورة بلدٍ يحاول أن ينهض من تحت ركام الخوف والفقر والقمع، كمن يفتّش في الرماد عن جذوةٍ لم تنطفئ. فقد عاش السوريون أقسى درجات الألم وصمدوا في وجه الفاقة والرعب، غير أنهم ظلوا، بالرغم من كل ما فُرض عليهم من تضييق وإقصاء، يحملون شعلة الثقافة والمعنى؛ تلك التي حفظت للروح شيئاً من كرامتها في زمنٍ بدا فيه كل شيء قابلاً للانطفاء. واليوم، وبينما كان يُؤمَّل أن يشهد الحقل الثقافي انفراجاً يتناسب مع حجم التضحيات، تتبدّى صورة أكثر تعقيداً: بارقة ولادة جديدة من جهة، وظلال ماضٍ لا يزال يقاوم زواله من جهة أخرى.

ويمكن القول إن التحرير فتح للمرة الأولى منذ عقود فضاءً أوسع للكلمة الحرّة، وأعاد للنقاشات الفكرية حيّزها الطبيعي. ومع انهيار الأجهزة الأمنية التي كبّلت الأقلام، وسقوط مؤسسات الرقابة التي صادرت الأصوات، بدأت الحركة الثقافية تستعيد أنفاسها، وإن ببطءٍ وخجل. بات المثقف أكثر قدرة على مساءلة ماضيه، وعلى تخيّل دور جديد للثقافة في مجتمع يتوق إلى إعادة البناء، كما برزت مبادرات شبابية ومشاريع فنية مستقلة تسعى إلى جعل الفن مساحة للشفاء ونافذة للحرية وطريقاً لتجاوز الجراح المفتوحة.

لكن هذا الحراك، على أهميته، ليس سوى خطوة أولى في طريق طويل؛ إذ لا تزال العثرات تحاصر المشهد، وتكشف أن الثقافة لم تتحرر كاملة من إرث العقود السابقة. ولعلّ أخطر هذه العثرات ما برز داخل اتحاد الكتّاب العرب نفسه ـ المؤسسة التي يُفترض أن تكون حامية لحرية الكلمة ـ حين حُجب مقال نقدي في صحيفة الأسبوع الأدبي لأنه تجرّأ على مساءلة سياسات الاتحاد. جاء الحجب صادماً، لا لأنه طال مقالاً هادئاً في لهجته فحسب، بل لأن كاتبه عضو في المكتب التنفيذي للاتحاد، ما يطرح أسئلة جدية حول حدود الاختلاف داخل المؤسسة الثقافية الأولى في البلاد.

إن هذه الواقعة لا تعكس مجرد قرار إداري، بل ذهنية لم تتخلَّ بعد عن ثقافة الإلغاء. وهي تذكّرنا بتلك العصور التي حورب فيها كل رأي مغاير، وحُوّلت الثقافة إلى نشاط شكلي خاضع للسلطة، بدل أن تكون ضمير المجتمع وحارسة أسئلته. فالنقد الذي جوبه بالرفض لم يكن إساءة، بل حرصاً على تاريخ المجلات الثقافية التي شكّلت وجدان أجيال كاملة من المبدعين.

إن التحديات التي تواجه الثقافة السورية اليوم تتوزع بين إرث الماضي ومتطلبات الحاضر: غياب البنية المؤسسية القادرة على احتضان المشاريع، ضعف التمويل وتوجّه الموارد نحو الأولويات المعيشية، الانقسام الاجتماعي والسياسي الذي ينعكس على الإنتاج الثقافي، هجرة الكتّاب والفنانين وحرمان الداخل من خبراتهم، وهيمنة الذهنية القديمة التي ما تزال تقيس القيمة بميزان الولاء لا الإبداع.

ورغم ذلك، لا يمكن القول إن المشهد مظلم تماماً، ولا إنه مُرضٍ بالمطلق. نحن في منطقة انتقالية، تتجاور فيها بواكير الأمل مع بقايا الممارسات القديمة. لقد منح التحرير فرصة نادرة، لكنها لم تُستثمر كما ينبغي. ويبقى الرضا رهناً بقدرتنا على تحويل الحرية الممكنة إلى ممارسة واقعية، وإلى مؤسسات تحمي النقد وتحتضن الإبداع.

ولكي نتقدّم نحو ثقافة حقيقية لا شكلية، لا بدّ من تكريس حرية التعبير قيمة ثابتة لا تُساوَم، وإعادة بناء اتحاد الكتّاب والمجلات الثقافية على أسس ديمقراطية تُشرك الشباب وتكسر احتكار القرار، وإطلاق صناديق دعم للمشاريع الفنية، وفتح فضاءات للنقاش والمعارض والندوات، واستعادة الخبرات الوطنية أينما كانت، وبناء إعلام ثقافي حرّ يعيد للكلمة مكانتها.

يبقى أن الواقع الثقافي السوري، بعد عام من التحرير، يعكس صراعاً بين ماضٍ يرفض الرحيل ومستقبلٍ يتلمّس طريقه إلى الولادة. وفي هذا المفترق، يصبح على المثقفين أن يدافعوا عن حقهم في الكلمة، وعن استقلال مؤسساتهم، وعن دورهم في بناء سورية جديدة لا تُقصي أحداً ولا تصادر رأياً.

فالتحرير الحقيقي لا يُقاس فقط بفتح السجون، بل بفتح العقول والصفحات والمنابر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.