أثناء زيارة خاطفة إلى عدن، لمحت سرب غربان يحلق في السماء وينعق مزعجاً فيما سرب حمائم يخطو على الأرض هادئاً ينتظر دوره كي يرفرف بأجنحته من دون تضييق من أحد، ويهدل من دون إزعاج لأحد.
ثمة سرب آخر يخط بهدوء محاوِلاً تحسين الوضع المتردي؛ لكن الفعل الهادئ لا يماثل صداه دوي الصخب؛ إنما المأمول استشعار مفعول المحاولة الهادئة على المديين المتوسط والبعيد والهادفة إلى تخفيف همّ اليمنيين واليمنيات من حوف إلى حرض.
لأن ما خلقته ثنائية «الحرب والفوضى» على نطاق واسع لا يمحى سريعاً ولا يزول بغمضة عين، فإنه يستلزم وقتاً طويلاً وجهداً مضاعفاً وصبراً أشد على معالجة الحالات المستعصية وإجراء جراحة شاملة على امتداد اليمن حيث لا تخفى مظاهر «اليمننة: الأزمة اليمنية» من تباينات وتناقضات ظاهرة فوق جزر سياسية منعزلة، ومشكلات متواصلة، وأيضاً سعي متواصل ودؤوب على حلها لكي يظل ثغر اليمن باسماً.
برغم الأطلال المدمرة والمشاق الكثيرة، تستمر الحياة داخل عدن «أفضل مكان في العالم» وفقاً للشاعر الفرنسي أرثر رامبو الذي أمضى أربع سنين هناك، فما بالنا بمن أمضى حياته مبهوراً بماضيها وأمسى مقهوراً من حاضرها؟
تزخر بجدران تعلوها شعارات وتساؤلات مصيرية، إلى جانب آثار المجد الاشتراكي المندثر وآيات الانفتاح المنحسر، والبنى التحتية المتضررة، ومنجزات التنمية المتعثرة. بيد أن شارات الأمل تنبعث من تدفق أمواج البشر للسفر عبر مطار عدن. مكتبات تتوسط ساحات المدينة.
تردد الجمهور على مستشفى الأمير محمد بن سلمان حيث تتوافر أفضل الإمكانات الطبية. ارتياد شارع الشيخ محمد بن زايد وساحل أبين وجزيرة العمال ومختلف المديريات، مع الإقبال على المراكز التجارية والمتنفسات المستحدثة بمبادرات القطاع الخاص تتلمس بها ثمار أهم مجموعة اقتصادية يمنية؛ فضلاً عن مؤسسات دولة صامدة مصحوبة بحراك حكومي وزيارات دورية يجريها سفراء دول الاتحاد الأوروبي والصين واليابان لدى اليمن بموازاة نشاط المنظمات الدولية تأهيلاً وتمويلاً للأنشطة المحلية.
لا يفوت ما تخوضه يومياً الحكومات اليمنية المتعاقبة من حروب ضارية على جبهات شتى تنسل منها أسوأ مظاهر الفوضى الناجمة عن حربٍ بعض أطرافها المحليين «يلتزم بنقض كل اتفاق» يستهدف التهدئة، وفق تعبير الرئيس الجديد للحكومة اليمنية الشرعية سالم صالح بن بريك الذي نأمل أن يوّفق في «فرملة» التردي العام، وقد خَبِر مسبباته جيداً بحكم عمله نائباً ثم وزيراً للمالية خلال السبع سنين الماضية؛ وهو سابع «حضرمي» يتولى رئاسة الوزراء، والعضو الثاني عشر في نادي رؤساء حكومة الجمهورية اليمنية من عام 1990.
«في عز الصيف» تقرر تعيينه، والآن يقضي الصيف في عدن متلمساً مع الوزراء المختصين سبل تجنب طول انقطاع الخدمات وتلبية احتياجات بقية المحافظات.
بمنتهى العفوية والشفافية عن حقيقة الوضع يتحدث الرئيس سالم بن بريك مع زائريه، سواء كانوا متظاهرين ساخطين أم باحثين موضوعيين، إذ ليس ممن «يغالط في الحقائق نفسه» ويطلب المحال. وباعتباره مسؤولاً عن كل مواطن يمني ومواطنة يمنية، يدرك تماماً فداحة المعاناة الإنسانية، ويتشاطر مع المختصين اجتهاد توفير المتطلبات الأساسية.
ما دامت حكومة بن بريك هي «حكومة الاعتماد على النفس» كما وسمها رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، يتعيَّن تضافر جهود القيادات كافة لتجسيد مبدأ الاعتماد على النفس، توكيداً على أن تحليق الغربان ونعيقها لا يمنع الحمائم من الرفرفة والهديل تبشيراً بموعد إجابة السؤال المنقوش على إحدى جدران عدن: «متى وضعنا يتحسن؟».