حين كتبتُ قبل أكثر من عقد عن تجربتي الشخصية وولعي العميق برياضة الجري وفوائدها؛ التي يصعب حصرها، فإني لم أكن أتوقع حجم التحول الذي ستشهده هذه الرياضة في المملكة. ففي ثمانينيات القرن الماضي كنتُ أركض وحيداً تقريباً في شوارع جدة، أُواجه نظرات الاستغراب وتعليقات الفضوليين، وأتمنى وجود مسارات تحمي من تهور قائدي السيارات، وتمنح فرصة أكبر للاستمتاع بالجري. ومع منتصف التسعينيات بدأت بوادر التغيُّر تظهر تدريجياً، إذ بدأت مجموعات صغيرة تمارس الجري في أماكن محدودة ذات أرصفة مناسبة نسبياً، مثل محيط سوق الشاطئ في جدة، وبعض المواقع القليلة الأخرى.
أما اليوم، فالمشهد مختلف تماماً، حيث لم يعد مستغرباً أن ترى في أي مدينة سعودية، رجالاً ونساء، صغاراً وكباراً، يُمارسون الجري والمشي بأعدادٍ لافتة، وكأن هذه الرياضة تحوَّلت من ممارسة فردية إلى ثقافةٍ عامة، تعكس وعياً صحياً متنامياً.
هذا التغيُّر لم يأتِ من فراغ، فقد شهد المجتمع -خلال السنوات الماضية- زيادة ملحوظة في الوعي بأهمية النشاط البدني، أسهمت فيها حملات التوعية الصحية، وانتشار النوادي الرياضية، إضافةً إلى تغيُّر أنماط الحياة لدى الأجيال الجديدة.. حيث أصبح المشي والجري جزءاً من الروتين اليومي لكثيرين، لا مجرد هواية عابرة، فمن المعتاد اليوم رؤية مجموعات من السيدات يمشين ويركضن قبل غروب الشمس، أو عائلات بكامل أفرادها تمارس الرياضة في المسارات المخصصة في عطلة نهاية الأسبوع، أو عدّائين يتدرَّبون لسباقات محلية تُنظَّم بشكلٍ متزايد.
ويلعب التطوير العمراني والاهتمام بمفهوم أنسنة المدن دوراً محورياً في هذا التحول، فقد أولت أمانات المدن عناية أكبر بإنشاء مسارات حديثة للمشي والجري، بجودةٍ أعلى مما كان متاحاً قبل سنوات، سواء من حيث الأرضيات والإضاءة والتشجير، أو من حيث امتداد المسارات وتوزيعها وربطها بالحدائق والمناطق المفتوحة. وشهدت مدن مثل الرياض وجدة والدمام والمدينة المنورة طفرة حقيقية في هذا الجانب، حتى باتت بعض «المماشي» نقاط جذب يومية لمئات الممارسين. كما انتشر في المراكز التجارية الكبرى مفهوم «المشي داخل المول»، كبديل مريح خاصةً لكبار السن، حيث البيئة المكيّفة والمحمية من عوامل الطقس والتلوث وحركة المركبات.
ورغم كل هذا التقدم، لا تزال بعض التحديات قائمة، وتحتاج إلى معالجة جادة. فالأرصفة في كثير من الأحياء ما زالت متقطعة وغير متناسقة، مما يجعل المشي في الشوارع تجربة مزعجة في كثير من الأحيان.. رصيف يبدأ ثم ينتهي فجأة، أو يرتفع بزاوية حادة، أو تُغلقه أشجار عشوائية أو سيارات متوقفة بشكلٍ مخالف. وهذه العوائق البسيطة ظاهرياً تُشكِّل عقبة حقيقية أمام مَن يريد اعتماد المشي والجري كأسلوب حياة يومي.
أما العقبة الأخرى؛ فتتمثل في سلوك بعض السائقين الذين يتعاملون مع الطريق وكأنه مسار سباق خاص، من دون اكتراث بالمشاة أو ممارسي الرياضة. ورغم التطور في أنظمة المرور، تبقى الحاجة قائمة لمزيد من الوعي والانضباط والرقابة لضمان سلامة الجميع، فهي الأساس الحقيقي لاستدامة هذه الثقافة الصحية.
ما تحقق خلال عقد واحد فقط يبعث على السعادة والتفاؤل، فقد أصبحت رياضتا الجري والمشي جزءاً أصيلاً من المشهد الحضري والاجتماعي والصحي في المملكة، وتحوّلتا إلى ممارسة يومية تتسع عاماً بعد آخر. ويبقى التحدي القادم هو تعزيز التكامل بين الوعي المجتمعي وتطوير البنية التحتية، للوصول إلى اليوم الذي يصبح فيه المشي والجري حقاً حضرياً سهلاً ومتاحاً وآمناً للجميع.
الجري وأنسنة المدن.. من هواية فردية إلى ظاهرة اجتماعية
مواضيع ذات صلة

