: آخر تحديث

في وداع زياد الرحباني

5
4
4

حمود أبو طالب

في الإبداع، أياً كان نوعه، نادرون هم أولئك الذين نجوا بموهبتهم من طغيان وهج العائلة، واستطاعوا أن يكونوا كيانات مستقلة، لها هويتها الخاصة وبصمتها المختلفة. زياد الرحباني، الذي غادر الدنيا قبل يومين كان مثالاً استثنائياً لمعضلة النشأة في كنف أسرة ليست مبدعة فحسب، وإنما محاطة بهالة ضخمة من ضوء الشهرة، جعلتها تقترب من مستوى الأساطير، ونعني السيدة فيروز والرحابنة، وتحديداً فيروز الأم وعاصي الرحباني الأب للمخلوق الذي سيقتحم مبكراً تلك الهالة ثم يتمرد عليها ويخلق هالة جديدة معادلتها فيروز وزياد، أو زياد وفيروز، معادلة قلبت موازين الفن الفيروزي الكلاسيكي المستمد من إرث الرحابنة وبقية الملحنين، وشكلت تأريخاً جديداً لسيدة الغناء فيروز، بل دشنت نمطاً جديداً في الأغنية العربية.

ومع مسار التلحين لوالدته السيدة فيروز، كان هناك مسار آخر متعدد الروافد لزياد الرحباني. الموسيقار، المسرحي، الكاتب، المثقف، السياسي، الشاعر، الإذاعي، الناشط الاجتماعي، كلها مجالات انخرط فيها زياد بكثافة، لكن يظل الموسيقار زياد هو الأصل الذي يهمنا لأنه المجال الذي حلّق فيه بشكل لم يسبقه إليه أحد.

الآن في رحيله، ليس عدلاً محاكمة حياته الشخصية ومتاعبها الجمة، أو سلوكياته الخاصة مع نفسه ومحيطه العائلي والاجتماعي، أو مواقفه السياسية، أو قناعاته الفكرية، أو الأضرار والخسائر التي لحقت به نتيجة القلق الوجودي الذي كان يعانيه، والطاقة المفرطة التي كان يحاول توزيع شحناتها في مسارب عديدة بأسلوبه الخاص الذي لم يكن يأبه كيف ينظر إليه أو يقيّمه الآخرون. عاش حياته كالإعصار الذي لا يهدأ، استنزف كل شيء في داخله، ولو امتد به العمر لاكتشفنا أن هناك المزيد مما لا زال حبيساً في كوامن إبداعه، لكنه تعب وتهاوى، ثم لوح للدنيا التلويحة الأخيرة وصمت صمتاً أبدياً.

زياد الرحباني ظاهرة فنية يصعب تكرارها، تشاركت في خلقها موهبة عظيمة نادرة، وظروف ومناخات ومعطيات جعلت تلك الموهبة تتفجر إبداعاً استثنائياً.. وداعاً زياد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد