طلال صالح بنان
من أهم أهداف إسرائيل بحربها على غزة، إن لم يكن أهمها: استعادة قوة الردع عندها، لتصل لمكانة الهيمنة الإقليمية.. وما أهدافها الأخرى، مثل: استعادة الأسرى، أمواتاً أم أحياء.. ولا القضاء على المقاومة الفلسطينية، ولا إعادة احتلال القطاع، ولا حتى تفريغ غزة، من أهلها، إنما هي أهداف ثانوية، لا تقترب من الهدف الإستراتيجي الأكبر: استعادة قوة الردع الإستراتيجي (الإقليمي) وفرض واقعه على كل أطراف الصراع في المنطقة، بالذات دول الطوق العربية القريبة. سيناريو يظهر أسوأ نظام لتوازن القوى، غير مسبوق حدث في تاريخ العلاقات بين الدول. توازن القوة، عادةً ما يحدث بين قوى متقاربة في إمكانات القوة ومواردها وتقنيتها وتنوعها، بهدف تفادي نشوب حربٍ إقليمية أو دولية، محدودة أو شاملة.. والإبقاء على الأمر الواقع، حتى إشعارٍ آخر، عندما يختل ميزان القوى السائد بين أطراف الصراع.
إسرائيل تريد فرض واقع إستراتيجي يقوم على استحواذ عناصر القوة الرادعة الجبارة، في إمكانات القوى التقليدية وغير التقليدية، ليس من أجل منع الطرف الآخر من التفكير في أي شكل من أشكال المواجهة معها، ولو على المستوى السياسي. إستراتيجية الردع الإسرائيلية، لا تقوم على إرادة الطرف الآخر في معادلة الصراع، بل على إذعانه لإستراتيجية الردع الإسرائيلية، شاء أم أبى. لذا، بالنسبة لإستراتيجية الردع الإسرائيلية، لا يكتفي عندها مستوى حالة التطبيع التي قد تنشأ بين الدولة العبرية والعرب، بل لما هو أبعد من ذلك (فرض حالة من «السلام» الإسرائيلي)، غير المعروف مداه.
حالة التطبيع، التي يُثار الجدل حولها هذه الأيام، كأهم نتائج الحرب على غزة، ليست الحالة المثالية، في فكر وسلوك، مؤسسات الحكم في تل أبيب، «لطمأنة» الدولة العبرية على مستقبل وجودها في المنطقة، بضمان أمنها القومي، مثلها مثل اتفاقات السلام السابقة مع بعض الدول العربية. نظرية الردع الإسرائيلية لا تقوم على مبدأ الندية المتبادلة مع دول المنطقة، بل على فرض التبعية القسرية على الطرف الآخر، لدرجة التحكم المباشر في الشأن الداخلي لأطراف المعادلة الإقليمية لدول المنطقة، بحيث لا تقضي أمراً، حتى على مستويات سياستها الداخلية، إلا بعد مشاورة وأخذ الضوء الأخضر، من تل أبيب، تماماً كما هو الحال في وضعية الاحتلال المباشر.
هذا أمرٌ غير مسبوق في العلاقات بين الدول، التي تقوم أساساً، على الندية، بالرغم من تفاوت ميزان القوة بينها. حتى على مستوى «الماكرو»، في العلاقات الدولية، لم يسبق أن تطور مثل هذا الوضع في العلاقات بين (الدول). ما تريد تل أبيب فرضه على المنطقة يمكن وصفه بالعهد الإسرائيلي، شبيه بالعهد البريطاني (١٨١٥-١٩١٤)، ما يجعل العهد الإسرائيلي، الذي تريد تل أبيب فرضه على المنطقة، يفوق ذلك الذي فرضته بريطانيا على العالم. فهذا العهد الإسرائيلي الجديد، يحكم العلاقة بين (دول) ذات سيادة، بينما العهد البريطاني كان يحكم علاقة استعمارية، بين بريطانيا العظمى ومستعمراتها، في عالمٍ تحظى فيه ببريطانيا العظمى بالهيمنة الكونية.
إذن: استعادة إستراتيجية الردع الإسرائيلي، لتحكم العلاقة بين إسرائيل وجيرانها، القائمة على توازن مختل للقوى، الذي في حقيقته من طرف واحد، يأتي في قمة أولويات نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، الذي يتجاوز مجرد إقامة علاقة تطبيع تقليدية، إلى إقامة علاقة تبعية، تفرضها إستراتيجية ردع جبارة، لا تترك للطرف الآخر أي خيار سوى الإذعان لها، خارج أي شكل من أشكال الندية الدولية، التي تفرضها أي اتفاقات ثنائية أو جماعية أومعاهدات سلام تفرض التزامات متساوية، بين أطرافها.
أمام تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي، إسرائيل مستعدة لأن تدفع أثماناً باهظة، سياسية وأخلاقية، لتستعيد هيبة الردع المتفرد الذي كانت تتمتع بها قبل السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. إسرائيل، ليس كما تزعم أنها تهدف ألا تتكرر أحداث ذلك اليوم المشؤوم في تاريخها، من قبل الفلسطينيين، بل تهدف ألا تتعرض هيبة الردع لديها لاختبار مماثل، أو ما يقرب منه، من قبل أي طرف في المنطقة، أو حتى المنطقة، بأسرها.
وجود إسرائيل في المنطقة واستمرار بقائها فيها، تعتمد على امتلاكها لإستراتيجية ردع فعّالة، تتمتع بقدرة وإمكانات قوة جبارة، وليس باعتراف أو القبول بها من قبل جيرانها، على أسس من الندية والتكامل والاتفاق على صيغة متبادلة لإقامة سلام حقيقي شامل في المنطقة. إسرائيل في حقيقة الأمر لا تتطلع لاعتراف دول المنطقة بها، ولا حتى التطبيع معها، لأن كل هذه الصيغ التقليدية للعلاقة بين الدول، لا تعني إسرائيل في شيء. إنما الذي يعنيها في المقام الأول: تنصيبها قسراً قوة إقليمية مهيمنة، تستند إلى إستراتيجية ردع جبارة، تُخضع بها قسراً جيرانها، لا تقف عند حدود فلسطين التاريخية، بل تؤهلها لاستمرار إستراتيجية التوسع الإقليمي، على حساب أراضي وموارد وسلام جيرانها.
إستراتيجية سبق لهتلر استخدامها ضد دول وسط وغرب وجنوب أوروبا، حتى تمكّن من الاستيلاء عليها، ليرتد، بعد ذلك شرقاً، لإخضاع الاتحاد السوفيتي، شرق جبال الأورال، على الحد الفاصل بين الشرق والغرب، تاريخياً وجغرافياً وثقافياً. إستراتيجية توسعية على حساب استقرار المنطقة، بل وسلام العالم.