نحن نصدق ما نراه، لا لأننا نمتلك الحقيقة، بل لأن المشهد بدا لنا كاملاً من الزاوية التي نُشاهد منها.
لكن.. كم من حقيقة ظُلمت لأننا لم نُدرك وجهها الآخر؟
وكم من حُكم أطلقناه، لم يكن سوى انعكاس لرؤيتنا المحدودة، لا لجوهر الواقع!
في زمن تتسارع فيه الإشارات والصور والمواقف، أصبح الإدراك البصري أداةً خطرة إن لم ترافقه بصيرة.
ليست كل مشاهد الحياة قابلة للتأويل من اللقطة الأولى. بعض المشاهد تحتاج أن نُطفئ عاطفتنا قليلًا، وننير عقلنا لنفهم السياق، لا السطح.
ما نحكم عليه ظلمًا قد يكون في جوهره منفعة، وما نراه خسارة قد يكون تمهيدًا لرحمة أكبر.
إن تحكيم العقل، والتريث قبل إسقاط الظنون، هو فن بصري من نوع آخر.. فن يجعلنا نرى الحياة لا كما تُعرض، بل كما تُفهم.
وفي خضم هذا الإدراك، نصبح أكثر لطفًا، أكثر وعيًا، وأقل قسوة في إصدار الأحكام.
فالحياة العصرية لا تحتاج فقط إلى سرعة في القرار، بل إلى حكمة في الرؤية
ليس كل تصرّف نراه جرحًا مقصودًا، وليس كل غياب خذلانًا.
أحيانًا يكون الآخر متعبًا، مشغولًا، أو في صراعٍ لا نعلمه.
علينا أن نسأل أنفسنا بوعي:
«ما الذي لم أستطع رؤيته؟» بدلًا من أن نقول: «أنا متأكد من قصده».
فالدخول في نوايا الناس ضربٌ من الخيال، وأنت ترى المشهد من ضوئك الخاص، من جراحك، ومن تجاربك المتراكمة..
قد تكون الانطباعات الأولى صحيحة أحيانًا، لكنها ليست عادلة دائمًا.
أمهل نفسك. أعطِ للآخر سبعين عذرًا.
اترك له حرية التبرير إن شاء، أو احترم صمته إن اختار ذلك.
فليس من النُبل أن نُطالب حين الانكسار والضعف شرحًا ، كمن يضيف على الجرح ملحا
لا تتعجل بكشف كل شيء فورًا، لأن بعض الحقائق لا تُفهم إلا في وقتها.
فحين نتوقف عن إرهاق أنفسنا بتحليل كل موقف من زاويتنا فقط، نمنح الآخرين مساحة للخطأ والاختلاف، وتصبح علاقاتنا أكثر إنسانية.
عندها فقط، نُدرك أن النوايا - مثل الصور - لا تُلتقط دائمًا من اللقطة الأولى، بل تحتاج أن نُشاهدها من كل الزوايا، لتُخلّد بما تستحق من وهج ووضوح..
وفي هذا العالم المتسارع، أصبحت الحكمة تكمن في التباطؤ الواعي بمعنى أن ترى، ثم تُراجع. أن تحكم، ثم تُصحح. أن تُدرك أن لكل مشهد أكثر من محفز، ولكل حدث أكثر من معنى.
الحياة العصرية لا تُقاس بمن يواكب كل جديد، بل بمن يفهم ما يستحق التأمل، ويتروى قبل أن يطلق الأحكام.
فالنفس البشرية جُبلت على الذنب والصفح، على التسرع والتأني، على التأمل والاعتدال.
وما نراه خلف شاشات المواقع والترندات والصراعات، لا يخرج عن أمرين:
إما شحن لمشاعر الغضب، أو سحق لمشاعر السلام النفسي.
فلا تترك نفسك فريسة لهذا الضجيج، ولا ترسل أحكامك على كل ما تراه.
احتفظ بحق الرأي لذاتك.
فليس كل ما يلمع ذهبًا، وعلى الصفيح الساخن، تنتهي أمم وتختفي.
فقط تذكر: أن الحياة العصرية لا تكتمل إلا ببصيرة تُنير ما وراء الصورة.