: آخر تحديث

أميركا والصين: «تناقض استراتيجي» بين القوتين

5
6
4

بدأ الرئيس ترمب ولايته الثانية بشن حرب تجارية واسعة على الصين، امتدت لاحقاً إلى حلفاء آخرين، تحت شعار حماية الاقتصاد الأميركي واستعادة التوازن التجاري. وقد انطلقت هذه المواجهة بفرض واشنطن رسوماً جمركية جديدة على واردات صينية تتجاوز قيمتها 120 مليار دولار. في المقابل، ردت بكين بفرض رسوم مضادة، حتى تجاوزت النسب المتبادلة على بعض السلع حاجز 100 في المائة. وكان ذلك امتداداً لنهج الرئيس ترمب في الحرب التجارية التي دشنها خلال ولايته الأولى عام 2018، والتي شكّلت تحولاً جذرياً في سياسة واشنطن تجاه الصين، وعكست توجهاً استراتيجياً واضحاً في التعاطي معها.

هذا التصعيد الأميركي تجاه الصين لا يمكن فهمه بمعزل عن صعودها اللافت، أولاً على المستوى الاقتصادي، ثم لاحقاً على المستوى التكنولوجي. فبينما لم يكن الاقتصاد الصيني يتجاوز 6 في المائة من حجم الاقتصاد الأميركي في مطلع الستينات، أصبح اليوم يتجاوز 50 في المائة منه. ولو استمرت معدلات النمو على وتيرتها الحالية، فإن الاقتصاد الصيني، بحسب تقديرات كثير من المحللين، مرشح لتجاوز نظيره الأميركي خلال عقد من الزمن على أقصى تقدير. وهو ما أدى دون شك إلى إرباك صناع القرار في واشنطن، ودفعهم إلى إعادة تقييم العلاقة مع بكين. وقد دفع هذا التحول، في وقت مبكر، إدارة أوباما عام 2009، إلى إطلاق «الحوار الاستراتيجي - الاقتصادي» مع الصين، في محاولة لاحتواء التراجع النسبي في موقع الولايات المتحدة ضمن النظام الاقتصادي العالمي.

وبينما كان التنافس بين واشنطن وبكين يدور على الزعامة الاقتصادية، شهد العقد الماضي تحولاً أكثر خطورة، مع دخول الصين بقوة إلى ميادين التكنولوجيا المتقدمة، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الجيل الخامس، والحوسبة الكمية، وأشباه الموصلات. إذ لم تعُد بكين مجرد ورشة للعالم أو منافس تجاري؛ بل باتت عبر شركات كبرى مثل «هواوي» و«علي بابا» وغيرهما، تسعى لإعادة رسم خريطة الابتكار العالمي ونقل مركز ثقله من الغرب إلى الشرق. وقد دفع هذا التقدم السريع، الولايات المتحدة، إلى دق ناقوس الخطر، إدراكاً منها أن من يمتلك زمام التفوق في هذه المجالات لا يحدد فقط ملامح الاقتصاد العالمي؛ بل يعيد أيضاً صياغة موازين القوى الدولية في جوهرها.

وعليه، فإن استمرار الصعود الصيني، اقتصادياً وتقنياً، لا يعد مجرد تحول في موازين التجارة العالمية؛ بل هو بحسب رأي محللين أميركيين بارزين، أمثال فريد زكريا، مؤشر واضح على تشكل نظام دولي متعدد الأقطاب. ويضيف باراغ خانا، أحد أبرز منظري هذا النظام الجديد، أن القرن الحادي والعشرين سيكون «قرناً آسيوياً»، تقوده شبكات من التكامل والتنافس بين قوى متعددة، وليس صراعاً ثنائياً بين واشنطن وبكين. نحن أمام نظام عالمي أكثر تعقيداً وتعدداً، ترسم ملامحه بالربط والابتكار، لا بالقوة المنفردة.

ومع ازدياد الزخم الذي فرضه الصعود الصيني، وتنامي القلق الأميركي من التغييرات المحتملة في بنية النظام الدولي، برز اتجاهان فكريان رئيسيان داخل الولايات المتحدة حول كيفية التعامل مع الصين. الأول يدعو إلى إعادة التوازن في العلاقة من خلال ما يعرف بـ«الاستيعاب التعاوني»، ويرى أن صعود الصين أمر لا يمكن تجاهله أو منعه، وأن الأفضل للولايات المتحدة هو دمج بكين في النظام الدولي القائم، ودفعها لتكون شريكاً مسؤولاً يلتزم بالقواعد، بدلاً من الدخول في مواجهة مباشرة. يتصدر هذا الاتجاه هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، الذي شدد في كتابه «عن الصين»، على ضرورة تقبل صعود بكين والتعاون معها، لتفادي صراع مدمر على النفوذ. ويؤمن كيسنجر بأن العلاقة بين البلدين يجب أن تبنى على التفاهم والحوار، لا على منطق الغلبة والمواجهة الصفرية، التي يرى أنها قد تقود إلى حرب كارثية. ويقترب من هذا الطرح توماس كريستنسن، أستاذ العلاقات الدولية ونائب مساعد وزير الخارجية الأميركي سابقاً، الذي يرى أن التنافس لا يمنع التعاون في ملفات عالمية كبرى مثل المناخ والصحة. وقد انعكست هذه المدرسة بشكل واضح، في سياسات عهدي كلينتون وأوباما، حيث تم دمج الصين في منظمة التجارة العالمية، وأطلق الحوار الاستراتيجي - الاقتصادي معها عام 2009.

في المقابل، يرى الاتجاه الثاني أن الصين تمثل تهديداً استراتيجياً طويل الأمد، وأنها تسعى ليس فقط إلى توسيع نفوذها الإقليمي؛ بل إلى إعادة تشكيل النظام الدولي بما يخدم مصالحها. هذه المدرسة تعرف بـ«المواجهة الاستراتيجية»، ويتصدرها باحثون ومسؤولون سابقون مثل أرون فريدبرغ من جامعة برنستون، الذي عمل ضمن فريق التخطيط الاستراتيجي في مجلس الأمن القومي.

في كتابه «صراع على السيادة: الصين وأميركا والمعركة على آسيا»، يرى فريدبرغ أن بكين لا تسعى فقط إلى التنمية؛ بل إلى الهيمنة، وأن على واشنطن أن تواجه هذا التمدد بحزم، خصوصاً في منطقة المحيط الهادئ. ويستشهد في هذا السياق بمقولة رئيس وزراء سنغافورة الأسبق لي كوان يو: «إذا لم تصمد في المحيط الهادئ، فلن تكون قوة عالمية»، ليخلص إلى أن السماح لصين غير ليبرالية بأن تفرض نفوذها في أكثر مناطق العالم حيوية، سيكون تهديداً مباشراً لمصالح الولايات المتحدة وقيمها على مستوى العالم.

ويبدو أن إدارة الرئيس دونالد ترمب قد حسمت موقفها مبكراً تجاه الصين، حيث مالت بوضوح إلى تبني مدرسة المواجهة، متجاوزة بذلك نهج التعاون والاحتواء الذي طبع سياسات الإدارات الأميركية السابقة. لم تعد بكين تعامل بوصفها مجرد شريك اقتصادي صاعد؛ بل بوصفها قوة طامحة لإعادة تشكيل النظام الدولي، وتحدي التفوق الأميركي في أكثر من مجال. هذا التحول الاستراتيجي لم يقتصر على الإجراءات الاقتصادية والتجارية؛ بل شمل أيضاً إعادة ترتيب أولويات الأمن القومي الأميركي، من خلال التركيز على تقليص الاعتماد على الصين، وتعزيز التحالفات الإقليمية في آسيا، وتحفيز سلاسل توريد بديلة، واحتواء الطموحات الصينية في مجالات التقنية والصناعة والتمويل. وبذلك، دخل التنافس بين واشنطن وبكين مرحلة ما يمكن وصفه بـ«التناقض الاستراتيجي المستدام»؛ فلم يعُد الخلاف ظرفياً أو قابلاً للاحتواء السريع؛ بل بات سمة بنيوية من سمات النظام الدولي الجديد.

وأخيراً، أعتقد بالنسبة لدول الخليج، يبقى الرهان على سياسة متوازنة تتيح تعظيم الفرص مع الجانبين وحماية المصالح، مع الحفاظ على استقلالية القرار وتعزيز الاستقرار الإقليمي في بيئة دولية شديدة التنافس.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد